رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

405

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

الفجوة الصامتة بين التعليم والمستقبل

16 ديسمبر 2025 , 04:00ص

لا يزال التعليم في كثير من مدارسنا وجامعاتنا قائمًا على نموذج قديم، جوهره الحفظ واسترجاع المعلومة، لا فهمها ولا توظيفها. ينجح الطالب حين يحفظ، ويتفوق حين يستظهر، ويحصل على الدرجات العليا كلما كان أكثر قدرة على تكديس المعلومات، لا على تفكيكها أو إعادة إنتاجها. هذا النموذج، الذي كان مناسبًا لعصور سابقة، أصبح اليوم عاجزًا عن مواكبة عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة.

إن التعليم القائم على الحفظ ربما كان مناسبًا في زمن كانت فيه المعرفة محدودة، والوظائف تقليدية، وسوق العمل ثابتة المعالم. أما اليوم، فنحن نعيش عصر البرمجة، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات المتقدمة، حيث لم تعد المعلومة بحد ذاتها ذات قيمة إن لم يُحسن استخدامها وتحليلها وتطويرها. العالم لا ينتظر من خريج الجامعات أن يكون ذا ذاكرة قوية، بل ينتظر عقلًا قادرًا على حل المشكلات، والتكيف مع المتغيرات، والتعلم الذاتي المستمر.

المشكلة لا تكمن في الحفظ بوصفه أداة تعليمية، فالحفظ جزء من العملية التعليمية ولا يمكن الاستغناء عنه بالكامل، خصوصًا في المراحل الأولى. الإشكال الحقيقي هو تحويل الحفظ إلى غاية بدل أن يكون وسيلة. حين يُقاس تميز الطالب بقدرته على استرجاع النصوص حرفيًا في ورقة الامتحان، لا بقدرته على الفهم والتحليل والتطبيق، فإننا نُعده لعالم لم يعد موجودًا.

كثير من خريجي المدارس والجامعات يكتشفون فجوة واسعة بين ما درسوه وما يواجهونه في الواقع العملي. يتخرج الطالب حاملاً شهادة، لكنه يفتقر إلى مهارات أساسية مثل التفكير المنطقي، العمل الجماعي، إدارة الوقت، أو حتى القدرة على التعبير عن أفكاره بوضوح. هذه الفجوة ليست خطأ الطالب، بل نتيجة طبيعية لمنظومة تعليمية ما زالت تعطي الأولوية للاختبارات النهائية على حساب المهارات الحياتية.

في المقابل، سبقتنا دول كثيرة حين أعادت صياغة فلسفتها التعليمية. تحوّل التعليم هناك من قاعات صامتة إلى بيئات تفاعلية، ومن كتاب واحد إلى مصادر متعددة، ومن امتحان واحد إلى تقييم مستمر يعتمد على المشاريع والبحث والتجربة. الطالب في هذه النماذج لا يُسأل: ماذا حفظت؟ بل: ماذا فهمت؟ ماذا طبّقت؟ وكيف توصلت إلى النتيجة؟

إن العالم يتجه بقوة نحو تعليم يقوم على البرمجة، والبحث، والتجربة، والتفكير الإبداعي. الوظائف المستقبلية – كثير منها – لم تُخلق بعد، والتقنيات التي ستقود الاقتصاد العالمي ما زالت في طور التطور. فكيف نُعد أبناءنا لمستقبل مجهول بأدوات ماضٍ معروف؟ وكيف ننافس عالميًا إذا ظلّ نظامنا التعليمي يقيس النجاح بعدد الصفحات المحفوظة؟

المطلوب اليوم ليس تغيير المناهج فقط، بل تغيير العقلية التعليمية كاملة. نحتاج إلى معلم يوجّه لا يلقّن، وإلى طالب يُسائل لا يكتفي بالتلقي، وإلى جامعة تكون حاضنة للفكر والابتكار، لا مجرد محطة عبور نحو الشهادة. نحتاج إلى نظام تعليمي يشجّع الخطأ بوصفه خطوة في طريق التعلم، لا وصمة تُعاقب.

إن الاستثمار الحقيقي في التعليم ليس في المباني أو الكتب فقط، بل في بناء عقلٍ ناقد، مرن، ومبدع. وحين ندرك أن العالم سبق مدارسنا وجامعاتنا لأنه غيّر طريقته في التفكير، سنفهم أن اللحاق به لا يكون بالشعارات، بل بإرادة إصلاح حقيقية تضع الفهم قبل الحفظ، والإنسان قبل المنهج، والمستقبل قبل الماضي. 

مساحة إعلانية