رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. قيس عبدالعزيز الدوري

مؤرخ ومستشار أكاديمي

مساحة إعلانية

مقالات

45

د. قيس عبدالعزيز الدوري

قطر.. من البدايات إلى الدولة الحديثة

16 ديسمبر 2025 , 09:25م

يُعدّ اليوم الوطني لدولة قطر محطةً أساسية في الوعي الوطني، إذ يُعيد إلى الأذهان لحظة التحوّل من مجتمع قبلي متفرّق إلى دولة موحّدة ذات سيادة، تقف على أسسٍ متينة من التاريخ والهوية. إنّ دراسة نشأة الدولة القطرية لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن سياقها التاريخي والإقليمي، إذ تشكّلت قطر ضمن بيئةٍ خليجية معقّدة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وشهدت تفاعلاتٍ متواصلة بين القوى المحلية والإقليمية والدولية منذ القرن السابع عشر الميلادي وحتى اليوم.

أولًا: البيئة التاريخية والاجتماعية لقيام الكيان القطري كانت شبه الجزيرة القطرية، بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي المطلّ على الخليج العربي، محورًا للتجارة والملاحة منذ العصور القديمة. ومع تزايد النشاط التجاري بين الهند وبلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية، أصبحت قطر ملتقى للقوافل البحرية، مما أسهم في ظهور مراكز عمرانية صغيرة على الساحل مثل الزبارة والدوحة والوكرة.

ومع بدايات القرن الثامن عشر، أخذت ملامح المجتمع القطري تتبلور حول أنشطة اقتصادية رئيسة مثل صيد اللؤلؤ والتجارة البحرية، وهي أنشطة تطلبت التنظيم والتعاون بين القبائل الساحلية. وفي تلك المرحلة بدأت قطر تبرز ككيانٍ متميز عن محيطها الجغرافي، مع بروز شخصيات قيادية من آل ثاني الذين مثّلوا عنصر توحيد وتوازن في مجتمعٍ قبلي متنوع.

ثانيًا: مرحلة التأسيس وبروز الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني يُعدّ الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني (1825–1913م) المؤسس الحقيقي لدولة قطر الحديثة. فقد ورث عن والده الشيخ محمد بن ثاني الحكمة والحنكة السياسية، وسار على نهجه في توطيد أركان الحكم وتوحيد القبائل تحت راية واحدة.

وفي فترةٍ شهدت تنافس القوى الإقليمية (العثمانية والبريطانية)، أدرك الشيخ جاسم أن الحفاظ على كيانٍ قطري مستقلّ يتطلب مزيجًا من الواقعية السياسية والصلابة الوطنية، فعمل على تحقيق الاستقلال الذاتي دون الدخول في صدامٍ مباشر مع القوى الكبرى.

لقد مثّلت معركة الوجبة سنة 1893م نقطة تحولٍ حاسمة في تاريخ قطر؛ إذ أظهرت قدرة القطريين على الدفاع عن أرضهم ضدّ محاولات الهيمنة الخارجية، ورسّخت مكانة الشيخ جاسم قائدًا وطنيًا ورمزًا للوحدة والاستقلال. ومنذ ذلك التاريخ، يمكن القول إن ملامح الدولة القطرية أخذت شكلها المؤسسي الأولي، حيث بدأت الدوحة تتحوّل إلى مركزٍ إداري وسياسي رئيس.

ثالثًا: التأسيس كعملية تاريخية متراكمة

من الخطأ النظر إلى تأسيس دولة قطر كحدثٍ واحدٍ أو تاريخٍ محدد، بل ينبغي النظر إليه بوصفه مسارًا تاريخيًا تراكميًا امتدّ عبر عقود.

فما بدأه الشيخ محمد بن ثاني من توطيدٍ للقيادة، وطوّره الشيخ جاسم من تأسيسٍ للكيان السياسي، استمرّ مع خلفائه في صورة بناء مؤسسات وإدارة الموارد وتنظيم الشؤون العامة.

إن هذا التراكم هو الذي جعل من قطر دولةً ذات شرعيةٍ تاريخيةٍ متجذّرة، لا وليدة ظرفٍ طارئ أو استعمارٍ مفروض.

رابعًا: الأسس الفكرية والسياسية للتأسيس

يمكن تلخيص فلسفة التأسيس القطري في ثلاثة مبادئ محورية:

1. الاستقلال والسيادة: فقد كانت قطر منذ بداياتها حريصة على إدارة شؤونها الداخلية بعيدًا عن الوصاية، سواء من القوى الإقليمية أو الدولية.

2. الشرعية القائمة على الإجماع الاجتماعي: إذ نشأت القيادة السياسية من توافق القبائل والبيوتات القطرية، لا من فرض القوة.

3. الموازنة بين الانفتاح والهوية: حيث حرصت الدولة الناشئة على الانفتاح على العالم العربي والإسلامي دون التفريط في الخصوصية القطرية والخليجية.

خامسًا: جهود البناء والتحديث المبكر

في النصف الأول من القرن العشرين، شهدت قطر تحولاتٍ مهمة مع ظهور النفط بوصفه موردًا اقتصاديًا جديدًا، ما أتاح للحكومة القطرية تطوير البنية التحتية وتحديث الإدارة.

ومع تولي الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني (1949–1960م) الحكم، بدأت معالم الدولة الحديثة تتشكل:

• تأسيس أولى الدوائر الحكومية.

• تنظيم التعليم والرعاية الصحية.

• تطوير العلاقات الدبلوماسية مع العالم الخارجي.

ثم تواصلت مسيرة البناء مع الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، الذي أعلن استقلال قطر عام 1971م، فدخلت البلاد مرحلة جديدة من التطور المؤسسي والسياسي.

سادسًا: اليوم الوطني… رمز الذاكرة والتجدد في كل عام، حين تحتفل قطر بيومها الوطني، فإنها لا تحتفي بميلاد دولة فحسب، بل تُجدّد عهدها مع قيم التأسيس الأولى: الوحدة، السيادة، الإخلاص، والعمل.

إن اليوم الوطني ليس تكرارًا لاحتفالٍ رسمي، بل هو تجسيد للذاكرة التاريخية التي تذكّر الأجيال بأن ما تحقق اليوم من نهضة وتنمية ومكانة دولية هو امتدادٌ مباشر لتلك الجهود التي بذلها المؤسسون الأوائل.

وأخيراً أقول:-

إنّ التاريخ القطري يمثل نموذجًا فريدًا في العالم العربي والخليج، حيث تمكنت قيادةٌ حكيمة من تحويل مجتمعٍ صغيرٍ في العدد إلى دولةٍ كبيرةٍ في الفعل والتأثير.

لقد أثبتت التجربة القطرية أن بناء الدولة لا يكون بالموارد فقط، بل بالإيمان بالمصير، وبالقدرة على الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الثبات على المبادئ والتفاعل الإيجابي مع العالم.

ولذلك، فإن اليوم الوطني لدولة قطر هو احتفاءٌ بجذور التاريخ وبثمار الحاضر معًا، وهو مناسبةٌ لتأكيد أن ما بدأه الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني بالأمس، يتواصل اليوم في ظلّ قيادةٍ واعية جعلت من “قطر” اسمًا يُذكر مقرونًا بالإنجاز، والكرامة، والرؤية المستقبلية.

مساحة إعلانية