رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بالأمس احتفلت تونس بالذكرى الخامسة لثورتها التي أطاحت بأول رئيس عربي عبر ثورة شعبية سلمية، لتنتقل لاحقاً إلى عواصم عربية، انتفضت شعوبها ضد القمع والاستبداد، الذي طالها عقوداً من الزمن، فمثلت الثورة التونسية بارقة الأمل التي حركت شعوباً عربية في مصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق، خاصة الشباب، الذي استلهم من الثورة التونسية، حراكه السلمي.
خمس سنوات مضت على الربيع العربي، أو الثورات العربية، التي نزفت فيها الشعوب ومازالت أنهاراً من الدماء؛ من أجل استرداد كرامتها، والحصول على حرياتها، وبناء مستقبلها ومستقبل أجيالها القادمة بحرية، بعيداً عن القمع والخوف والآلة العسكرية.
في الوقت الذي اختارت الشعوب حراكاً سلمياً في عواصم تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق، كان الخيار الأمني هو المفضل بل الوحيد لدى السلطات الحاكمة، ثم تحركت "الثورات المضادة" وطوابيرها في الداخل والخارج، لإجهاض هذه الثورات السلمية، التي أرادت تغيير واقع عربي مظلم، فما كان إلا أن واجهت سلاح السلطات الحاكمة.. ولكن هل انتهت هذه الثورات؟ وهل وئدت في المهد قبل أن تكبر وتمشي خطوات؟
من المؤكد أن هذه الثورات لم تمت، وهذا "الربيع" لم يوأد، وهذا الحلم ببناء مستقبل عربي متحرر من أغلال القمع والاستبداد مازال قائماً، وسيظل كذلك، مهما استخدمت السلطات الحاكمة في عواصم القمع كل الخيارات الأمنية، إلا أن "ربيع" هذه الشعوب سيزهر من جديد.
في مسيرة الشعوب لا يمكن للأنظمة العسكرية والقمعية الانتصار على المدى البعيد، وحسم المعركة لصالحها، بل إن النهايات تسجل الانتصار للشعوب، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
نعم قد تكون التضحيات باهظة الثمن، كما هو الحال مع الشعب السوري وشعوب عربية أخرى، لكن بقاء تلك الأنظمة ليس بأقل ضرراً ومعاناة مما تقاسيه الشعوب تحت آلة القتل والقمع التي تمارس اليوم.
نزفت الشعوب العربية أنهاراً من دمائها، وأملها بناء وطن تعيش فيه أجيالها بوضعية أفضل مما هي عاشت فيه، فبقاء الأنظمة العسكرية القاتلة ضرره على الأوطان والشعوب والأمة أكبر من التضحيات التي تدفع اليوم.
بالتأكيد الجميع يحزن لما حدث في الأوطان العربية من قتل ودمار واستنزاف للمقدرات والطاقات، ولكن هل من المتوقع أن أنظمة قمعية ومستبدة يمكن أن تترك السلطة بخيارات سلمية بكل بساطة؟!
لقد حملت الأنظمة العربية في البلدان التي ثارت شعوبها شعاراً "إما أحكمكم أو أقتلكم"، وهو ما نشاهده اليوم في سوريا، التي ظل شعبها أكثر من ستة أشهر في حراك سلمي رافضاً حمل السلاح في مواجهة السلطة القمعية، التي منذ اللحظة الأولى اختارت الخيار الأمني، فيما الشعب ظل يردد "مالنا غيرك يا الله".
عبر التاريخ لم تمر ثورات الشعوب في طرق "وردية"، أو استردت الشعوب حرياتها وكرامتها بقليل من الحراك أو الشعارات السلمية، بل كانت هناك دماء قدمت، وثورات طعنت من الخلف، وتم تأليب وتحشيد قوى العسكر لضرب الثورات، وخلقت ثورات مضادة، وجدت دعماً مطلقاً من الطبقات الحاكمة والمستنفعين والدولة العميقة في الداخل والخارج، كما حصل مع الثورات العربية، التي عانت من الثورات المضادة، التي وجدت احتضانا من دول ومنظمات وأفراد.
من يقرأ الثورة الفرنسية والتحولات التي صاحبتها، والمنعطفات التي مرت بها على مدى نحو قرن من الزمن، والأمر نفسه مع ثورات شعوب أوروبية أخرى، يعرف المدد الزمنية التي استغرقتها تلك الشعوب حتى استقرت أوطانها بشكل كامل، كما هو الحال مع الثورة الفرنسية، التي عاشت أطواراً متعددة في مسيرتها حتى اكتملت، فكان لها التأثير على أوروبا كلها.
في العالم اليوم هناك قوى لن تقبل بحدوث تغيير في العالم العربي، الذي يمثل قلب العالم، وبالتالي لن تألو جهداً في سبيل قمع أي تحرك للشعوب للحصول على قرارها، وتحديد مصيرها، وبناء علاقاتها وفق رؤيتها ومصالحها، بعيداً عن التدخلات الخارجية، التي تركز على مصالحها ومصالح أطراف في المنطقة، وهو ما يجعلها تقوم بـ "تأجير" ما يسمون برؤساء لحكم دول، ولو كان ذلك على جثث أبنائهم، وفوق جماجمهم، لا يراعون مصالح أوطانهم، إنما هدفهم المحافظة على مصالح القوى الخارجية.
المرحلة التي نعيشها في العالم العربي مرحلة طارئة، رغم كل الآلام، ورغم كل الأوجاع، ورغم أنهار الدماء، ورغم كل هذا الدمار..، إلا أنها فترة "مؤقتة"، حتى وإن طالت، فقطار التغيير قد تحرك في العالم العربي، ولن يتوقف، مهما تعرض للحصار والقتل والتجويع..، ومهما كانت "موجة" الثورات المضادة عالية، ومهما تآمرت "الدولة العميقة"، ومهما نفذ العسكر انقلابات.. رغم كل ذلك فإن التغيير قادم، مهما كانت الكلفة، فالشعوب التي ذاقت طعم الحرية لن تتراجع عن ذلك، والشعوب التي عاشت لحظات الكرامة ستدفع في سبيلها الغالي والنفيس.
المنطقة حبلى بالأحداث، وعالمنا العربي يعيش مخاضاً سيسفر عن مولود مكتمل النمو، فالجنين الذي أجهض في المرة الأولى، سيأتي بعده مولود، مهما حاول الطغاة والمستبدون منع ذلك، فهم لن يكونوا أكثر قدرة من فرعون الذي حاول قتل كل الأطفال الذكور من أجل بقاء كرسيه، لكن الله أراد أن يأتي موسى عليه السلام في سنوات المنع، فعاش وترعرع في بيت فرعون، الذي كانت نهايته على يد هذا الطفل بعد أن كبر.
ما أكثر "الفراعنة" في عصرنا، لكن نهايتهم لن تختلف كثيراً عن نهاية جدهم.. فرعون الأكبر.
كلمة أخيرة..
قد تؤخر آلة القمع والاستبداد إزهار الربيع.. لكنها لن تستطيع منع قدومه..
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6300
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3795
| 21 أكتوبر 2025