رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

وجيدة القحطاني

• ناشطة اجتماعية

مساحة إعلانية

مقالات

0

وجيدة القحطاني

التعلّق.. خيطٌ من المحبة يجرّنا إلى الوجع

17 نوفمبر 2025 , 03:07ص

التعلّق شعورٌ يولد مع الإنسان منذ أول لحظةٍ يبصر فيها النور، كأنه نداء خفيّ في أعماق القلب يبحث عن مأمن وسند. هو حاجة فطرية مغروسة فينا، تدفعنا نحو الآخرين طلبًا للدفء والطمأنينة، لكنه في الوقت نفسه اختبارٌ قاسٍ لمدى وعينا بطبيعة الحياة وزوالها. نتعلّق لأننا نحب، ونحب لأننا نخاف الوحدة، ونخشى الفراغ، فنربط قلوبنا بما يملأ هذا النقص فينا. غير أن الأمان الذي نبحث عنه في الوجوه والأيدي والكلمات، سرعان ما يتلاشى حين ندرك أن كل شيءٍ حولنا يتغيّر، وأن الثابت الوحيد في هذا الوجود هو الله. فكل من نتعلّق بهم قد يرحلون، وكل ما نملكه قد يزول، أما من تعلّق قلبه بمن لا يتغير ولا يغيب، فقد وجد الأمان الذي لا يخذله الزمن ولا الفقد.

كل ما في الدنيا مؤقت؛ الوجوه، والأصوات، والمشاعر، حتى الأحضان التي نلوذ بها يومًا، تتركنا يومًا آخر. وما أشدّ أن يعلّق القلب سعادته بما لا يدوم! فالتعلّق يجعلنا نعيش على حافة الخوف، نرتجف من فكرة الفقد قبل أن يأتي الفقد. ولذا كان أعظم الدروس في الحياة أن نتعلم كيف نُحب دون أن نُستَعبَد، وكيف نَمنح دون أن نُنسى أنفسنا، وكيف نعلّق القلب بالله وحده فلا نخسر إذا خسرنا أحدًا.

ما من صورة أصدق للتعلّق من قلب أمٍّ تحمل أبناءها في دعائها قبل أن تضمّهم إلى صدرها. تبدأ حياتها من أجلهم، وتدور أيامها في فلكهم، تفرح لضحكاتهم الصغيرة وتقلق لأنفاسهم حين تتعب. وحين يكبرون، تتّسع المسافة بينهم وبينها دون قصد، فينشغلون بأعمالهم وبيوتهم وأبنائهم، وتبقى هي في زاويةٍ من الذاكرة تُقلّب صورهم القديمة وتمسح عنها غبار السنين. ليس وجعها من قسوةٍ أو جفاء، بل من حبٍّ عظيمٍ لم تعرف له حدودًا، ومن قلبٍ لم يتعلّم أن يُفطم بعد. تتألّم لأنها أحبّت أكثر مما يحتمل القلب، وتعلّقت بأيدٍ كان لا بد أن ترحل عنها يومًا، فتظلّ تودّعهم بصمتٍ كلّ صباح، وتستقبل غيابهم بالدعاء والحنين.

وهكذا هو التعلّق، يعطي ثم يسلب، يمنح الفرح ثم يجرّ الدموع. فالأبناء الذين ملأوا البيت ضجيجًا يغادرونه، والضحكات التي ملأت الأمس تذوب في الصمت. ومع كل فراقٍ صغير، تتعلم الأم أن أبناءها ليسوا لها، بل لله، وأن الحب إن لم يكن لله، أصبح عبئًا على صاحبه. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، والفتنة هنا امتحان، ليرى الله أين يقف القلب حين يُنتزع منه أحبّته.

وكما تتعلق الأم بأبنائها، يتعلّق الأبناء بالوالدين. فهم جدار الأمان الذي نستند إليه، والملجأ الذي نحتمي به من تقلبات الدنيا. وجودهم يخفف الخوف ويُشعرنا بأننا مهما تعثرنا فهناك من يلتقطنا. لكنّ هذا التعلّق، مهما كان جميلًا، يحمل في داخله وجع الفقد. يمضي العمر، ويأتي يوم تغيب فيه تلك الأصوات التي كانت تدعو لنا في الغيب، وتبرد أكفّ كانت تمسح حزننا. عندها يدرك الأبناء أن التعلّق بالبشر مهما كان نقيًّا، فإنه متعب، لأنهم راحلون، وأن التعلّق بالباقي وحده هو من يملأ هذا الفراغ. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وكأنها تذكرة لنا أن لا نربط حياتنا بمن يفنى.

ولا يخلو الحب بين الزوجين من التعلّق أيضًا. فهو حبٌّ جميل، مودة ورحمة، لكنه حين يتحوّل إلى اعتمادٍ مطلق، يصير سجنًا للعاطفة. حين تُعلّق المرأة نفسها بزوجها حتى تنسى ذاتها، تتعب، لأن التغيّر سنة الحياة، ولأن القلوب بيد الله لا بيد أحدٍ من خلقه. كم من امرأةٍ ذبلت لأن من علّقت به قلبها تغيّر أو ابتعد، وكم من أخرى أزهرت لأنها أحبّت لله، فصار حبّها عبادة لا عبودية. إن التعلّق الزائد يجعلنا نعيش بقلوبٍ مهددة دائمًا، تنتظر كلمة أو تصرفًا كي تهنأ أو تنهار.

الحقيقة المؤلمة أن التعلّق هو شكلٌ من أشكال العذاب اللطيف، لأنه يُشبه الحب في البداية، ثم يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى وجعٍ خفيّ. نرتبط بالأشخاص ظنًّا أن وجودهم يمنحنا الحياة، فنكتشف أنهم جزء منها لا مصدرها. لا أحد يملأ القلب كما يفعل الإيمان، ولا أحد يمنح الطمأنينة كما يفعل القرب من الله. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وهذه الطمأنينة لا تُشترى، ولا تُكتسب إلا حين يتحرر القلب من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق.

ختاما.. التعلّق بالله هو الحرية الكبرى. هو أن تمسك الأشياء كلها بيدك لا بقلبك، فإذا أفلتت يدك، بقي قلبك مطمئنًا. هو أن تحب الناس وتعيش معهم وتفرح بهم، لكنك في عمقك تعرف أنك لا تحتاج سواهم، لأن الذي منحهم لك، إن شاء أبدلك خيرًا، وإن شاء أبقاهم حولك نعمةً وشكرًا.

مساحة إعلانية