رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. عبدالله العمادي

د. عـبــدالله العـمـادي

 

مساحة إعلانية

مقالات

177

د. عبدالله العمادي

الفساد منظومة متكاملة وهكذا مكافحته

18 ديسمبر 2025 , 04:00ص

اختتمت قبل أيام في الدوحة، النسخة التاسعة من جائزة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الدولية للتميز في مكافحة الفساد، تأكيداً على مواصلة قطر نشر رسالتها في تعزيز ثقافة مقاومة منظومات الفساد المتنوعة، عبر تكريم النماذج الملهمة في هذا المجال من أفراد ومؤسسات حول العالم. 

الجائزة باختصار كما جاء في التعريف بها على موقع الديوان الأميري الرسمي، تعتبر «مساهمة من سمو الأمير حفظه الله في جهود مكافحة الفساد، الذي يُعتبر آفة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية تعيق التنمية والتقدم والتطور، حيث تم رصد جائزة عالمية بالتعاون مع الأمم المتحدة تحمل اسم سموه، وتُمنح سنوياً للمتميزين في مجال مكافحة الفساد، سواء عن طريق التوعية والتثقيف والإرشاد، أو عبر نشر ثقافة النزاهة. وتهدف الجائزة إلى تشجيع الإبداع المقاوم للفساد، وتحفيز الطاقات الشابة لنبذه ومكافحته، بالإضافة إلى زيادة الوعي بأهمية دعم المبادرات الرامية للقضاء عليه».

الفساد بشكل عام في أي زمان وأي مكان، ليس مجرد سلوكيات فردية، أو حالات معزولة، بل هو منظومة متكاملة ومعقدة في أحيان كثيرة، حيث تتشابك فيها المصالح وتترابط فيها الأدوات والآليات التي تعمل على حمايته واستمراره.

 ومن الطبيعي أن أي منظومة معقدة كمنظومات الفساد المتنوعة، أنها تستخدم طرقاً متعددة، وأساليب خفية من أجل ضمان بقائها وسلامة رموزها، أو الفاعلين فيها، بدءاً من استغلال النفوذ بطرق احتيالية ذكية، وانتهاءً بتبرير الانحراف عن القيم والمبادئ ! 

الفساد وقصة من التاريخ 

في التاريخ القديم الذي يقصه القرآن، اشتهرت قرية مَدْين بين الأمم الغابرة بفساد اقتصادي عميق حتى صار معروفاً مكشوفاً بين القرى في ذلكم الزمان، بالإضافة إلى ما كانت عليه القرية أساساً من فساد فكري وعقدي، وكان فسادها أساساً في ظهور شبكات ومنظومات أخرى فاسدة بعد ذلك، والتي لم تكن تدخر جهداً في كسب الأموال بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة، وإن كانت جلّها غير متوافقة، لا مع شرع سماوي، ولا عُرف اجتماعي، ولا حتى قانون أو عرف تجاري. 

 الإشكالية الكبيرة حينذاك أو في قرية مدين، أن الفساد كان قد تغلغل وتعمق في البلاد حتى صار منظومة متكاملة، لها وسائلها وأدواتها وآلياتها ورموزها، بل بنفوذها صارت تؤثر على توجهات وقرارات الحكومة حينها !! وقد بلغت المنظومة حداً لم يجرؤ أحد أن يقف في وجهها، أو التصادم معها، حتى جاء خطيب الأنبياء، شعيب عليه السلام ليقوم بالمهمة الصعبة، وقد كان ظهوره مفاجأة للمنظومة كلها. ووجه المفاجأة بدا في تلكم الجرأة التي كان عليها شعيب وبضع أشخاص على دينه وفكره، يكشفون أعمال وسوءات تلك المنظومة الأخطبوطية واسعة النفوذ والانتشار والتأثير والترهيب، والمتغلغلة في عروق المجتمع وشرايينه ! 

 الفساد وهو ينتفض 

رغم علم منظومات الفساد بوجاهة شعيب، واحترامهم لعشيرته وإن لم تكن على دينه أيضاً، إلا أن ذلك لم يمنعهم من البدء في تهديد متدرج له ومن معه، وضرورة التوقف عن دعوته تلك، وألا يقف في وجههم، أو بعبارة أخرى، ليس من الحكمة أن يقف شعيب في وجه منظومة - الفساد - في البلاد، لأنها أقوى منه ومن عشيرته بكثير، أو هكذا تعتقد أي منظومة فاسدة في كل زمان ومكان. فلا هي تريد التوقف عن إفسادها في الأرض، ولا تريد في الوقت نفسه أحداً يتحدث عنها بسوء، أو يحاول مجرد إشغالها فضلاً عن التصدي لها وكشفها !

شعيب - عليه السلام - استغرب من انغماس كثيرين من مواطني القرية في هذا الفساد الاقتصادي الذي لم يكن له ما يبرره، فكان يقول لهم (إني أراكم بخير) ويقصد أن وضع القرية الاقتصادي مريح جداً، وقد فتح الله عليهم من بركاته ورزقه، فلماذا هذا الفساد، أو التطفيف والغش في تعاملاتهم وأكل أموال الناس بالباطل؟ ولماذا أصلاً تظهر منظومات فاسدة عندهم، رغم أن الأوضاع لا تستدعي اللجوء لأساليب وطرق الغش والاحتيال والنصب وبقية مصطلحات الفساد؟!

 هكذا كان لسان حال وواقع النبي شعيب وهو في مواجهاته المتنوعة معهم.. ولولا خشيتي - أو هكذا قال شعيب - أن يُنزّل الله عذابه عليكم، ويسلبكم ما أنتم عليه من الاستقرار وسعة الرزق وبحبوحة العيش، ما دعوتكم ونهيتكم عن هذا الذي أنتم عليه.. لكن هل لانت قلوبهم وخشعت؟ 

 بالطبع لا، بل ازدادت المنظومة فساداً وقسوة وتأثيراً على البلاد كلها، حتى لم تبق حجة تمنع نزول العذاب، كما كانت سنن الله في القرى والأمم الغابرة، فكان يوم الظُّلة، حيث احتباس الهواء وارتفاع الحرارة، ثم غيمة عظيمة تأتي فيسرع إليها الفاسدون قبل غيرهم، فلعل ظلها يخفف عنهم بعض ما كانوا فيه وعليه من جفاف وسخونة الطقس، لتمطرهم ناراً أحرقتهم وأبادتهم جميعاً ( كأن لم يغْـنوا فيها ). 

من وسائل كشف الفساد 

 نعود من التاريخ تارة أخرى إلى الواقع، حيث لا أنبياء ولا مرسلين لمواجهة شبكات ومنظومات الفساد، لنقول بأن من أبرز أدوات ووسائل كشف الفساد اليوم، والوصول إلى شبكاته المتعددة المعقدة، وأحد أهم الأسلحة في مواجهة تلك المنظومات ومكافحتها، هي ما نسميها بالصحافة الاستقصائية، التي يلعب العاملون فيها دوراً بارزاً مهماً مؤثراً، خاصة إن وجد أولئك العاملون تعاوناً بناء فاعلاً من كافة مؤسسات المجتمع.

 الصحافة الاستقصائية حين تجد مساحات كافية من حرية العمل، ودعماً من جهات متنفذة في أي مجتمع، يمكنها أن تلعب دورها الحقيقي المؤثر في كشف ما يُخفى عن الناس، وتسليط الضوء على شبكات المصالح، التي تحاول العبث بالمال العام وإفساد القيم، بفضل شجاعة وجسارة العاملين القائمين على تلك التحقيقات الجريئة، المبنية على أدلة وشواهد وإثباتات مادية، والتي تُسهم دون شك في تعزيز مسألة الشفافية، ومُساءلة المسؤولين، ما يجعل من هذا النوع من الإعلام ركيزة أساسية لحماية المجتمع من الفساد وشبكاته المتعددة.

لكن الصحفيين الاستقصائيين، ولخطورة المهام التي يقومون بها، تراهم يواجهون دوماً مخاطر جسيمة على شكل تهديدات مباشرة لهم، أو أهليهم ومصالحهم الشخصية المتنوعة، ما يدعو إلى أهمية وضرورة توفير تشريعات وقوانين تحميهم من الملاحقة والتهديد، وتكفل لهم كذلك حق الوصول إلى المعلومات بكل أريحية، إلى جانب ضرورة دعمهم مؤسسياً ونقابياً وشعبياً، وتأمين بيئة عمل آمنة لهم تضمن استقلاليتهم، وتحصنهم ضد أي ضغوط سياسية أو اقتصادية، أو غيرها من ضغوط متنوعة، إضافة إلى أهمية حماية المبلغين عن الفساد والمفسدين.

 لكن الأهم من حماية الصحفيين الاستقصائيين، هو حماية المجتمعات نفسها التي يعيش فيها أولئك الصحفيون، من منظومات الفساد وشبكاتها، وقسوتها على من يتجرأ ويحاول كشفها. وحماية المجتمعات تبدأ منطقياً ببناء مؤسسات قوية تقوم أساساتها على مبادئ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون. أي كلما كان النظام الرقابي فاعلاً مؤثراً، والإدارة العامة نزيهة أمينة، كلما تقلصت فرص الفساد في أن يتغلغل بين ثنايا المؤسسات المختلفة. 

 إلى جانب ما سبق، تأتي التربية الدينية والأخلاقية، والتوعية المجتمعية المستمرة، لتلعب دوراً جوهرياً مهماً في تعزيز ثقافة النزاهة، ورفض ثقافة الواسطة والمحسوبية، والرشوة وما شابهها.. ثم مرة أخرى يبرز ها هنا دور الإعلام الحر، وضرورة تعاون المجتمع بمؤسساته المتنوعة معه، والعمل كشريكين في كشف الممارسات المشبوهة، ومحاسبة الفاسدين. ثم من بعد ذلك تطبيق العقوبات على شبكات الفساد المختلفة والعاملين فيها بكل حزم وعدالة في الوقت نفسه.. هذه بعض ركائز يمكن للمجتمعات أن تصون نفسها من الفساد، وتؤسس لبيئة متعاونة متماسكة خالية من الفساد والمفسدين، يسودها العدل والشفافية.

 خلاصة ما يمكن تسطيرها في ختام هذا الحديث، أنه رغم القدرة المؤقتة لأي منظومة فاسدة على التخفي والتغلغل في مؤسسات المجتمع، إلا أن سنن الحياة والكون وقوانينها الطبيعية العادلة، تقتضي أن ينكشف أمر تلك المنظومات الفاسدة نهاية المطاف، مهما طال الزمن، أو تراكمت وكثرت المحاولات لحمايتها، فالحقيقة لا بد أن تظهر، والفساد مصيره إلى زوال، عاجلاً أم آجلا.

 والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

مساحة إعلانية