رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

يوم لا ينفع مال ولا بنون

إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين البشر في الحياة الدنيا. فلا علاقات رحم، ولا قربى، ولا مصالح ولا غيرها. إن مثل هذا الإدراك، أو الفهم العميق لحقيقة القيامة، هو الذي دفع بخليل الرحمن عليه السلام، أن يسأل الله من ضمن ما سأله (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). لن ينفع المرء يوم القيامة ماله ولا نسبه ولا أصله ولا جاهه ولا أحد من أبنائه وأزواجه وأرحامه. لن ينفع المرء منا ذلك اليوم إلا قلبه، بشرط أن يأتي الله بقلب سليم موحد خالص من الشرك. لكن مع ذلك، يمكن أن ينتفع الناس بأموالهم وأولادهم، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره (تأويلات أهل السنة): «إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القُرَب، وعلّموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ، كقوله (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) أخبر أنهم إذا آمنوا، وتابوا، تقربهم أموالهم وأولادهم عنده». ويضيف الماتريدي بأنه جائز أن يكون على غير ذلك، أي لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم هو السالم من الشرك، أو السليم من الآفات والذنوب، والخالص لربه، لا يجعل لغيره فيه حقاً ولا نصيبا. وشَرَطَ فيه إتيانه ربه ما ذكر، ليعلم أنه ما لم يُقبض على السلامة والتوحيد، لا ينفعه ما كان منه من قبلُ من الطاعات، إذا لم يُقبض على التوحيد. هذا يدعو المرء منا إلى الاهتمام بالنفس في هذه الحياة الدنيا، وهذا أمر ليس فيه ما يعيب، بل واجب المحافظة على هذه النفس في هذه العاجلة، من الأمراض ومن شر كل ما يمكن أن يعيبها ويعطلها عن هدفها الوحيد، أو الغرض الأساسي من وجوده في هذه الحياة، وهو إعداد نفسه وإنقاذها من مشاهد الآخرة المتنوعة غير المألوفة. لا أحد يومئذ معي ومعك، أو ينفعني وينفعك، أو يشفع لي ويشفع لك كما الحال في الدنيا. فإننا ذلك اليوم، لن ينفعنا مال ولا بنون إلا إنْ أتينا الله بقلوب سليمة. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتنا الدنيا، لأننا محاسبون على ما نقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك في نهاية المطاف، ويخرجك من ورطة أو مشكلة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه من هموم ومشكلات ومنغصات دنيوية لا تنتهي ولا تتوقف. لكن يوم التغابن، أو يوم المحاسبة، فقد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك أمل ورجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء لتخفيف بعض ما يمكن أن تواجهه، فلا تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، ليس لأنك لا تعني لهم شيئاً، بل لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يتكرم، أو يعطف عليهم ويأخذ بأيديهم مما هم فيه أيضاً. وربما تراهم يهربون منك يمنة ويسرة، لا يلتفتون خلفهم، وهم الذين ربما كنت تبذل الغالي والنفيس من أجلهم في الحياة الدنيا! لكن هذا الأمر يفيدك ويفيدني ويفيد كل قارئ أن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيله عقل. الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً، ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها. إنه يوم ليس كأي يوم. ثقيل على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد. هكذا تبلغ الأمور يومئذ.. نسأل الله لنا ولكم العافية وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.

312

| 16 أكتوبر 2025

سقوط غرناطة من جديد!

إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها البعض، على رغم اختلاف الزمان والمكان والأشخاص، حتى انتشرت مقولة التاريخ يعيد نفسه. ولأن هذا التاريخ يعيد نفسه، أو أن أحداثه تتكرر بين حين وآخر، فمن المنطقي ألا تكون قراءة التاريخ ترفاً فكرياً، بل علماً يقدم الدرس تلو الآخر، والعظة بعد الأخرى. فما فائدة استحضار دروس التاريخ دون الاستفادة من سلبياتها، فنعمل على تجنبها، أو إيجابياتها فنعمل على الاستفادة منها، أو على أقل تقدير، تقليدها؟ مناسبة المقدمة الموجزة هذه، هي الأحداث الجارية على ساحة غزة العزة، التي ربما دفعت بكثيرين لمراجعة التاريخ ومن قبل ذلك آيات القرآن الكريم الكثيرة، ومحاولة فهم تفسيرات تلك الآيات، واستخلاص الدروس من حوادث التاريخ، ومحاولة إسقاطها على ما يحدث في غزة، وكيف يمكن الاستفادة من توجيهات القرآن في المحنة والأزمة الواقعة حالياً في غزة، وكذلك استثمار دروس التاريخ، لا سيما تاريخنا الممتد، وصراعاتنا مع الأعداء التقليديين من يهود ونصارى ومن على شاكلتهم. ما إن نتأمل حصار غزة الظالم والممتد لسنوات عديدة، حتى نتذكر حصار غرناطة في 1492 للميلاد، آخر قلاع الإسلام والمسلمين في بلاد الأندلس. تلكم الدولة العريقة الراقية التي عاشت ثمانية قرون، حتى أصابها ما أصابها بفعل آفة الفرقة والخلاف، أن تفككت إلى أكثر من عشرين دولة، كل دولة بما لديهم فرحون، بينما كان العدو المتربص في الجانب الآخر، يزداد قوة وبأساً، وتتجمع قواه من كل حدب وصوب، حتى تمت السيطرة على كل تلكم الدويلات بصورة وأخرى، وبقيت غرناطة كآخر معقل سني يحارب العدو، فيكون المصير هو الحصار لأشهر عديدة، حتى تأزمت الأمور بالداخل، واشتد الجوع والفقر وفقدان الأمن بين الناس. غرناطة تستغيث ولا مجيب لم تسقط غرناطة كأخواتها العشرين دولة من دويلات الأندلس بسهولة، بل قاومت وقاتلت وقدمت العديد من الشهداء، وصمدت في وجه غالب الأزمات الداخلية، حتى خارت القوى والعزائم بسبب وجود فئات مخذلة مرجفة ومنافقة، كانت تستغل الأزمات الداخلية لمصالحها الخاصة، وبدعم من العدو الذي يحاصر المدينة. حيث لم تكن تلكم الفئات الخائنة تتردد في تقديم كل يد العون للعدو، مقابل حظوة أو مكرمة مستقبلية! أنهك الحصار غرناطة التي استغاثت بالجوار الإسلامي، لكن لا مغيث ولا معين. كلٌ انشغل بنفسه وخاف على مصالحه، وآثر عدم التدخل بين غرناطة والعدو الصليبي، لتواجه غرناطة قدرها بنفسها، وهذا ما حدث فعلاً، حيث استسلمت غرناطة وتم التوقيع على اتفاقيات ومواثيق يتم بموجبها تسليم المدينة للملك القشتالي، الذي كان يحلم هو وزوجته بالاحتفال بزواجهما في قصر الحمراء وهو ما كان فعلاً. وخرج من خرج من المسلمين، فيما بقى آخرون لكن في حياة ذليلة مهانة، وسقطت المدينة سريعاً، آخر حصون الإسلام والمسلمين. غرناطة القرن الحالي هي غزة المحاصرة. حيث أزمات الجوع والمرض وفقدان الأمن، وتخاذل العرب والمسلمين عن النصرة، مرددين العبارة القديمة ذاتها: نفسي نفسي، في ظل تواطؤ دولي، يقوده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، المندفعة بفكر صهيوني يحلم بالتوسع كما كان العدو الصليبي يفعل في حروبه ضد دويلات المسلمين، والذي أسماها يومئذ بحروب الاسترداد، وهو المسمى ذاته الذي تستخدمه اليهودية المتصهينة ممثلة بالكيان الإسرائيلي، من أجل استرداد مملكة اليهود الممتدة من النيل إلى الفرات! غزة هي غرناطة العصر اليوم بقي آخر حصن جهادي يدفع عن أرض إسلامية بعد أن ابتعد عنها القريب قبل الغريب، بل تدافع الإخوة الأعداء للتعاون مع المحتل المغتصب وداعميه، من أجل تصفية وإنهاء هذا الجيب، وهذه المقاومة، أو هذا الصداع المزمن في الدماغ العربي الكبير، فلعل هذا التعاون يكون جميلاً يمكن الرجوع إليه واستثماره في قادم الأيام. سقوط غزة، لا قدر الله، تكملة لمسلسل سقوط الدول العربية الكبيرة، التي وإن كانت اليوم أكثر من عشرين دولة كما كانت دويلات الأندلس، فليس مستبعداً أن تتضاعف وتتكاثر، فيما يتعملق العدو المحتل ويكبر، ويزداد حجماً وعدداً وعدة، لنعيش حقبة ذل ومهانة جديدة كتلك التي عاشها مسلمو الأندلس بسبب تفرقهم واختلافهم وصراعهم، بل وتحالفهم مع العدو المتربص ضد الأخ المسلم. خلاصة القول أن دروس التاريخ هي للتأمل، وأخذ العظة والعبرة. وأحسبُ أن تلك الدروس قد تم تأملها ودراستها واستثمارها من لدن مجاهدي غزة، وجزء كبير من حاضنتهم الشعبية، فيما بقية العالم العربي والإسلامي في سبات أو غفلة عميقة، وتكرار عجيب لأخطاء مسلمي الأندلس ومواقف الخذلان مع غرناطة، والتي أحسبها نتاج تغافلنا عن دروس التاريخ وتأملها، وأخذ الحيطة والحذر كي لا تتكرر. لكن لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن استفادة ما قد تمت من تلكم الدروس. ولا أريد أن أكون متشائماً إن قلت: لا شيء يمنع من تكرار قصة الأندلس في عالمنا العربي تحديداً بعد عدد من السنين قادمة، ما لم يحدث حادث، يدفع الأمة للنهوض، ومواجهة خطط المتربصين بها. وهو أمل كل غيور، وكل من في قلبه ذرة كرامة، وإسلام وإيمان.

462

| 02 أكتوبر 2025

دولة الغـدر وأحلام السيطرة

لا يتوقف زعماء النظام الصهيوني البغيض منذ وعد بلفور البريطاني المشؤوم الغادر، عن ترديد خطابات التوسع والحديث عن أحلام السيطرة والتمكين لكيانهم المصطنع في المحيط العربي، مرددين شعارهم الذي يزين جدار الكنيست الأمامي في مواجهة النواب، القائل « حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل « ! هذا الشعار الذي كان يتحدث عنه الصهاينة على استحياء قبل عقود مضت، صار حديث زعمائهم اليوم، كمجرم الحرب، رئيس وزرائهم الحالي، المطلوب للعدالة الدولية، والذي صار يؤكد على تلك الأحلام بالخرائط والصور، بل لم يعد يتردد في التصريح بها، مع ما يعني ذلك مزيد توسع واحتلال للأراضي في المحيط العربي، والذي بكل تأكيد لن يتأتّى لهم إلا عبر حروب ودماء وخراب ديار.. أثبت هؤلاء المجرمون، أهل الغدر وسفك الدماء، أنهم خطر على البشرية كلها، وليس على المحيط المزروع فيه كيانهم المصطنع. وإن الإجماع العالمي تقريباً على وحشية الفكر الصهيوني وتطرفه، والذي ظهر منذ الأمس من خلال خطابات زعماء العالم في اجتماع الجمعية العامة السنوي، والمستمر لأيام أخرى قادمة، دليل على أن ما يحدث في العالم الآن من حراك سياسي وفكري وإنساني ضد هذا الفكر ومعتنقيه وداعميه، لم يكن ليحدث لولا استشعار ووعي عالمي ظهر أعقاب طوفان الأقصى. إنّ أبرز من يتحرك وفق هذا الفكر المتطرف هو الكيان الصهيوني، وقد عرفه العالم بأنه واجهة استعمارية متقدمة لحكومات الولايات المتحدة لعقود مضت، من بعد بريطانيا العظمى. واجهة تحافظ على مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة، لكنها كما أسلفنا، واجهة استعمارية إقصائية متوحشة غاية في السوء والفحشاء، حتى أمسى التصدي له وردعه، مطلباً عالمياً بدأ تدريجياً منذ أحداث السابع من أكتوبر المجيد، ولا أظنه سيتوقف أو يتغير إلا حين يحدث ما يفيد بتعطيل خطورة هذا الكيان، وما يحمله من فكر متطرف مؤذ، وقد يتسبب في كوارث عالمية، إن تُرك له الحبل على الغارب. أتى خطاب سمو الأمير حفظه الله، ضمن السياق العالمي المحذر من هذا الكيان وخطورته، فكان الخطاب واضحاً حاسماً ومؤكداً على حقائق ملموسة كان لابد من التطرق إليها أمام هذا التجمع العالمي، من أجل نشر تلكم الحقائق وتعزيزها في الأذهان، منها حقيقة الغدر التي يتميز بها العدو الإسرائيلي، حتى صارت صفة أو طبعاً فيه، بل باتت جزءاً من شخصيته.. كيان مصطنع لا يحفظ عهداً ولا يفي بوعد، حتى أصبحت صورته في العالم مهزوزة أكثر مما كانت عليه من ذي قبل، والخطاب جاء يؤكد ذلك للعالم تارة أخرى. أضف إلى هذا، فقد تطرق سموه كعادته في الخطابات الرسمية، إلى قضية الأمة الكبرى، قضية فلسطين، التي لا يمكن أن ينافس على أهميتها أي قضية أخرى بالعالم اليوم. أهميةٌ تجعل من تصدي العالم لهذا الإجرام الصهيوني المستمر، أمراً ومطلباً ضرورياً يلزم من الجميع العمل على إنهاء، أو تحجيم هذا الكيان بصورة وأخرى. أوضح سموه كذلك ضمن سياق الحديث عن الأمن والأمان، والسلامة والاستقرار، الدور المهم الذي تقوم به دولة قطر في عمليات إحلال السلام حول العالم، حتى أصبح البعيد والقريب يشهدان بهذا الدور، والذي جعل الجميع يضع ثقته في الدولة لتكون وسيطاً نزيهاً يعمل من أجل وقف عدوان جبهة متعجرفة لكنها غادرة جبانة، على جبهة أصيلة صادقة في وعودها، لكنها لم تجد حلاً تجاه هذه القوة الغادرة سوى المقاومة الشرسة، وإن كانت التضحيات كبيرة مؤلمة. لكن رغم الجهد القطري الصادق الأمين، يأبى هذا الكيان الغادر إلا أن يمارس غدره وخسته مع الوسيط في وضح النهار، بل خرج يتباهى ويفتخر بعدوانه الخسيس على مفاوضين مدنيين، هو ما جرى قبل أسابيع على أرض الدوحة، وهذا ما استلزم فضح هذا الكيان وإرهابه، وكشف أخلاقياته الدنيئة أمام العالم، والذي في ظني أنه سيساهم في مزيد عزلة، ومزيد غضب وحنق على هذا النظام الاحتلالي. سيكون الخطاب دون شك، عاملاً مساعداً ملهماً للعالم، يدفع بموجة الوعي الحقيقية التي تنتاب الشعوب الحرة أجمع نحو مزيد تفاعل وفاعلية هنا وهناك، لأجل عمل جاد حازم لعزل أو إنهاء هذا المحتل عاجلاً أم آجلا بإذن الله، والذي أعلن هو بنفسه أنه ضد أي مشاريع سلمية إنسانية، بل هو ضد العالم أجمع، وهذا ما يؤكد حديثنا في بداية هذا المقال، من أن هذا النظام العنصري، خطر على البشرية كلها، بل هو ورم سرطاني سيبدأ قريباً بالانتشار هنا وهناك، ما لم يتم محاصرته تمهيداً لمعالجته، أو إزالته كآخر أنواع العلاج.. ( ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).

207

| 25 سبتمبر 2025

قمة الدوحة لم تشف غليل الأمة بعد!

يمكن القول بادئ ذي بدء بأن الدوحة نجحت باقتدار في تحقيق الهدف من التجمع العربي الإسلامي الكبير، قبل أيام مضت، والتي تم الإعداد لها في وقت قياسي، لتجد الدوحة نتيجة ذلك الجهد، تضامناً عربياً إسلامياً كهدف أول، يؤكد أهمية الدور القطري في السلام العالمي، كأحداث غزة في المقام الأول، وغيرها من جهود هنا وهناك في عمليات إحلال السلام حول العالم. كما يمكن القول في الوقت نفسه، بأن الدوحة نجحت في لفت انتباه العالم أكثر فأكثر إلى ما يحدث في غزة من عدوان وحملة إبادة ممنهجة، وأن العدو المزروع في قلب هذه الأمة، غادر جبان لا يمكن الوثوق به، وقد أكدت كلمات معظم الزعماء والقادة ذلك، حيث كانت كلماتهم بالإضافة إلى أنها تضامنية مع قطر، واضحة المطالب والمغزى أيضاً فيما يتعلق بالعدوان على غزة، والدعوة إلى إجراءات وخطوات جادة. الدبلوماسية القطرية إذن، نجحت في القمة العربية الإسلامية في تحقيق هدفين كما أسلفنا، أحدهما كسب تضامن عربي إسلامي، والآخر التأكيد على خيانة وجبن العدو، الذي لا تردعه إدانات أو عبارات شجب واستنكار، إلا أن نجاح القمة لم يكتمل بعد، وهذا بشهادة جل المتابعين والمراقبين، سببه غياب الإجراءات والخطوات العملية القابلة للتنفيذ على أرض الواقع، بحيث تكون موجعة للعدو على كافة الأصعدة. لكن رغم ذلك، لا أحد ينكر أن الدوحة سعت وبذلت كل جهد ممكن عبر القمة، من أجل صناعة رأي عام عربي إسلامي، يعزز المشاعر الملتهبة حول العالم المضادة للإجرام والفكر الصهيوني. لكن مرة أخرى، وعلى قدر أهمية هذه الخطوة، وأهمية حملات التوعية الإعلامية بخطورة الفكر الصهيوني على البشرية كلها، بقيت هناك جوانب أخرى منتظرة في المواجهة مع هذا العدو لم يتم تفعيلها، وهي كلها كانت بحاجة لتكاتف الجميع. خذ على ذلك بعض الأمثلة.. • دول عربية وإسلامية تقيم علاقات دبلوماسية وتجارية وعسكرية مع الكيان الصهيوني، حضرت القمة، لكن لم يصدر عنها أي مقترح يمكن أن يجعل العدو الغادر يتمهل في اندفاعاته المجنونة في حملة الإبادة المستمرة في غزة، واستباحة أجواء الدول العربية وغيرها، وانتهاك سياداتها. مشكلة الأمة في تفرقها لا شك أن مشكلة الأمة، عربها وعجمها، في تفرق واختلاف رؤى ومصالح دولها. فما من دولة إلا وصارت تقدم مصالحها الوطنية على القومية أو مصالح الأمة الكبرى، وهذه الفردية أو الأنانية التي تسيطر على استراتيجيات وخطط دول الأمة المسلمة السبع والخمسين، جعلت منها كيانات لا يُنتظر منها التوصل إلى إجماع عام على خطوات وإجراءات عملية مؤثرة موجعة ضد الكيان الصهيوني، حتى في أشد أوقات الأزمات معه، ما يجعله مستمراً في عدوانه وغيه وظلمه، مستفيداً من هذا الخلل العميق الحاصل في الأمة، وفي الوقت ذاته مستفيداً أيضاً من الدعم الأمريكي اللامحدود، دبلوماسياً واقتصادياً وعسكريا. الأمة بحاجة إلى استثمار الوعي العالمي المتصاعد بشأن خطورة الفكر الصهيوني، والاستفادة من التحولات العالمية هنا وهناك، إلى جانب الأحداث الجارية في كثير من بقاع العالم، والتي لا ريب أن طوفان الأقصى كان عاملًا رئيسياً في حدوثها، واعتبار كل ما يحدث منذ السابع من أكتوبر، فرصاً مطلوب استثمارها بشكل صحيح وفي وقتها الصحيح المناسب. القمة العربية الإسلامية الأخيرة بالدوحة ختاماً، وإن لم تحقق ما يشفي غليل الملايين بالشكل المأمول، إلا أنها نجحت في إظهار الأمة ككيان يمكن أن يلعب دوراً رائداً في العالم، إذا ما أراد أبناؤه ذلك، بشرط أن يؤمنوا بقدراتهم وإمكاناتهم، واتخاذ خطوات عملية في ظل ما يجري من تحولات في هذا العالم، والذي يتسابق كل أحد في أن يكون له دوره في البناء والتشكيل لقرن قادم، أو ربما أكثر. نعم، لابد أن نكون كياناً يبني ويساعد في التشكيل، قبل أن يُبنى علينا ويتم تشكيلنا! والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

507

| 18 سبتمبر 2025

الصهاينة أهل غدر وعداوة

هل أبالغ إن قلت إن الصهاينة الذين يحكمون كياناً مسخاً مزروعاً في قلب الأمة، هم أعداء لله وللدين والمسلمين، عربهم وعجمهم، وأهل غدر وخيانات؟ هل أكون قد بالغت في الوصف؟ إنّ من يرى الوصف مبالغة، لا أشك أن عنده خللا في الفهم والتصور، وفي قلبه دَخَن يجعله يخلط بين الخير والشر، فيرى الخير شراً والشر خيراً ! ما حدث أول أمس من اعتداء صهيوني غادر في الدوحة على منزل آمن بوسط حي مزدحم بالمؤسسات المدنية الآمنة، بقصد تصفية من فيه من أعضاء الوفد المفاوض لحركة حماس الصامدة، إنما هو شاهد آخر وليس أخيرا على أن هذه الحفنة أو العصابة المزروعة بفلسطين، هم شذاذ آفاق يؤدون أدواراً وظيفية بدقة عالية وفق وصفة غربية قديمة، وقد تجددت وصارت أمريكية بحتة، الهدف الاستراتيجي البعيد منها، إحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط عبر الهراوة الغليظة المتمثلة في هذا الكيان المسخ، عبر إدخال المنطقة في فرن التحول والتشكّل، على غرار ما تم قبل قرن من الزمان على يد المحتل البريطاني والفرنسي، أو ما يُعرف بسايكس بيكو المشؤوم. العدوان الغادر على قطر، لا يشك عاقل بأنه يأتي ضمن بنك أهداف صهيونية أمريكية، وإن أقسموا بأغلظ الأيمان أنهم يريدون الخير للمنطقة، وأنهم لا علم لهم بما يقوم به النتن ياهو وعصابته. أقول بأن العدوان على قطر جاء بعد اعتداءات متكررة على سوريا، ثم تونس، ولا شك أن تركيا والجزائر وربما الحليف الأقرب مصر ومن بعدها الأردن، ضمن تلكم الأهداف، فهذه الحفنة لا تعترف بحليف أو صديق أو غيرهما في سبيل تحقيق مصالحها البعيدة، وإن كان للأسف لا زال بعض العرب على ثقة شبه عمياء بهذه الفئة الغادرة ! العدوان على قطر رسالة العدوان الأخير على قطر ليس رسالة من النتن ياهو للعالم العربي وأنه بصدد تشكيله من جديد، بل هي رسالة لكل من سار على درب التطبيع مع حفنة الغدر والخيانة هؤلاء، خلاصتها أن التعايش مع ثلة عُرفت تاريخياً بنقض العهود والمواثيق، وتعاطي الغدر مع أقرب المقربين إليهم، هو أمر بالغ الصعوبة.. لا يمكن التعايش مع من طَبْعُه الغدر والخيانة. نحن أمة القرآن، من أكثر الأمم خبرة وفهماً لسلوك هذه الفئة الغادرة من البشر، وأكثر فئة يحذرنا كتابنا الكريم منها، ويشرح لنا كيفية التعامل معها. ولأننا نبتعد تدريجياً عن الدين، ونحاول إزاحته عن الصراع بيننا وبينهم، صار فهمنا وتصوراتنا حول هذه الفئة الغادرة ضبابية مشوشة، حتى اعتبرها البعض منا فئة مسالمة خيّرة، ولا شيء في التعايش معها ! بسبب تلك الضبابية والرؤية المشوشة للبعض منا، تم تناسي أصل القصة وهو أن هناك احتلالاً، وأرضاً محتلة، ويُراد لنا تعميق هذا التناسي كي يتحول الموضوع إلى تسوّل وبحث عن قطعة أرض لإقامة دويلة فلسطينية منزوعة الدسم والسلاح والهيبة، والكلمة والسيادة، كي تديرها سلطة رام الله، مقابل اعتراف عربي تام بدولة أخرى صهيونية لكنها كاملة الدسم، مدعومة من الشرق والغرب بالسلاح وغيره، يديرها مجرمو حرب مطلوبون للعدالة الدولية ! وما مشروع حل الدولتين إلا هكذا تفاصيله. لكن حتى تلكم الفكرة البائسة لا يراها النظام الصهيوني المحتل بطبيعة الحال قابلة للتجسيد على أرض الواقع، وقد بدأ يركلها بعيداً عبر العربدة التي يقوم بها حالياً، وأعلن مراراً وتكراراً إلغاء فكرة الدولتين من قاموسه، بل ويؤكد على ذلك في كل مناسبة، والدليل الأخير أنه لم يحضر المؤتمر الذي اجتمع جل العالم قبل أسابيع في نيويورك للإعداد له وطرحه خلال الاجتماعات القادمة بالجمعية العامة بعد أيام، من أجل إعلان حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية ! العدو الصهيوني الغادر لم يعترف بما صدر عن تلك الاجتماعات، ولن يعترف بشكل لا ريب فيه ما سيصدر بعد أيام خلال اجتماعات الجمعية العامة، بدليل أنه مستمر في مشاريعه لضم البقية الباقية من فلسطين تحت مرأى ومسمع من العالم كله، وبحماية ودعم أمريكي لا مثيل له ! الموقف العـربي البائس الفقير المحزن في المشهد كله موقف العرب البائس، الذي يزداد بؤساً كلما تسامحوا وغضوا الطرف عن سلوكيات هذا العدو الغادر، ولا أظن العدوان على قطر ومن قبلها تونس وسوريا، سيغير من المشهد العربي البائس الفقير، الذي اعتبره سبباً كافياً لاستمرار العربدة الصهيونية المدعومة أمريكياً بشكل فاضح مكشوف. لكن ما يغيظ هذا العدو الغادر وداعميه من الغرب والشرق على حد سواء، أن الجهة الوحيدة التي فهمت أس المشكلة، أو أساس الصراع هي حماس، وقد كان نتاج ذلك الفهم والوعي المتقدم هو طوفان الأقصى، الذي صار صعباً على الفهم عند المنبطحين في عالمنا العربي والإسلامي، من ساسة ومثقفين، ومفكرين وعلماء سلاطين ! لكن المحزن أن الذي فهم طوفان الأقصى، وأنه نتاج مشروع سني وحيد حالياً، وتجسيد عملي لفكرة مقاومة الاحتلال والاستبداد والطغيان قابلة للتطوير والانتشار، هم هؤلاء الغادرون ومن يدعمهم. ولهذا ترى معظم تحركاتهم منذ بدء الطوفان تركّز على نقطة جوهرية هي نزع سلاح حماس والتخلي عنها قبل كل شيء، ترافق تلك التحركات عمليات تشويه مستمرة بكل الطرق والوسائل، مع التأكيد على حرمان حماس من أي دور مستقبلي لها في غزة! غشاوة أزالها طوفان الأقصى طوفان الأقصى أعاد ترتيب ذهنية العالم من جديد، بعد أن عاثت الرواية الصهيونية فيه سنين طويلا. كان هذا العالم لا يرى ولا يسمع إلا ما تريده آلة الدعاية الصهيونية المنتشرة حول العالم. هذا الطوفان أزال غشاوة غليظة كانت ملتصقة على عيني هذا العالم، فرأى فجور وتدليس وكذب الرواية الصهيونية، ورأى كل ذلك لأول مرة على الهواء مباشرة. جرائم حرب يمارسها هذا العدو الغادر من تهجير وتجويع وإبادة جماعية متعمدة تُرتكب ليس من الآن، بل منذ بدايات القرن الفائت. من هنا، جاء هذا الطوفان، وأعطى زخماً للمقاومة الفلسطينية التي كادت أن تُنسى تماماً، حيث رأى العالم أن ما يقوم به حماس وبعض فصائل المقاومة الأخرى في غزة، إنما هو حق مبين، لا يتعارض مع أي دين سماوي، ولا أي شريعة أرضية كذلك، بل هو الواجب على أي شعب يرضخ تحت نير الاحتلال والاستبداد والطغيان. خلاصة الحديث ما جرى منذ بدء الطوفان حتى الساعة، عبارة عن مشاهد متنوعة لمعركة يديرها الله عز وجل، كي يكشف حقيقة هذا العدو أكثر فأكثر للغافلين ومن على أعينهم غشاوة، ويكشف في الوقت ذاته حقيقة المنافقين من الداخل والخارج، ويكشف حقيقة المجاهدين والمرابطين كذلك. ها هم أولاء وقد انكشفوا جميعاً. عدو متغطرس غادر لا يفقه قوانين وسنن الكون، ومنافقون منتفعون لا يتعلمون دروس التاريخ، ومجاهدون عرفوا المعنى العميق للتوكل على الله، ومغزى الجهاد في سبيله لا غيره، في أجواء تحلق غربان تنعق، وأصوات باطلة مرجفة من هنا وهناك تدعو أهل الحق ليلاً ونهاراً ( إن الناس قد جمعـوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ). نعم، قالها أهل غزة ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) ولو وقف العالم كله ضدنا، فالله أكبر وأعظم، ولن يخذلنا أبداً.

303

| 11 سبتمبر 2025

أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئاً

تكررت آيات شبيهة المعنى بالآية التي اتخذناها عنواناً لحديث اليوم، وكل الآيات الشبيهة تستنكر التصاق الأبناء بإرث الآباء، وبالطبع ليس كل الإرث، وإنما ذاك المعاكس للحق. هذا إرث باطل يجب تصحيحه، وإلا فمحاربته أولى. هكذا كانت دعوات الأنبياء والمرسلين. يأتي النبي يدعو قومه إلى خير الدنيا والآخرة، يدعوهم إلى نبذ الشرك وعبادة غير الله، فيأتي القوم يتغنون بإرث أسلافهم وأجدادهم، وأنهم على دربهم سائرون. هكذا كان غالبية القدماء.. وهكذا كانت عقلياتهم التي لوثها الشيطان أيما لوثة. المسألة لم تكن كامنة في العقول والألباب فحسب، بل في أعماق القلوب التي في الصدور، عناد وتحجر وتصلب بلا حدود. إن أي عقل بشري سوي، حين يرى الحق والباطل واضحاً أمامه، فإن فطرته تدفعه تلقائياً نحو الحق، وتبعده عن الباطل، إلا إذا اختار هو بنفسه فعل المكابرة والمعاندة، فهكذا كان الأولون مع أنبيائهم. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ). قيل: الآية نازلة في مشركي العرب وكفار قريش، الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء، كما في التفسير الوسيط للطنطاوي. إذن هو تقليد أعمى مذموم، فليس كل تقليد محمود، إن التقليد في أمور العقيدة والتوحيد، دون علم ودراية كافية بما كان عليه من يتم تقليدهم، أمر مذموم يودي بصاحبه إلى التهلكة. ولهذا رد الله على من قال ونادى باتباع الآباء من منطلق التقليد الأعمى غير السوي، محاط بعناد وكبر وجهل (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). كمثل الذي ينعـق التقليد الأعمى إذن كما أسلفنا، يؤدي بصاحبه إلى التهلكة إن كان تقليد الآباء والأجداد في أمور العقيدة، وكان أولئك الآباء والأجداد أساساً على ضلالة وكفر.. من هنا وصف الله تعالى هؤلاء المقلدين، الذين ساروا في درب تعطيل العقول، بأنهم مثل أغنام ينعق لها راعيها بالدعاء أن تأتي، أو بالنداء أن تذهب. أغنام لا تفقه شيئاً مما تسمع من الأصوات. (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون). إنّ مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم - كما قال البغوي في تفسيره - وأن الكافر لا ينتفع بوعظك، إنما يسمع صوتك.. إنها صورة زرية - كما يقول صاحب ظلال القرآن - تليق بهذا « التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني، بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صمٌ بكمٌ عُمي، ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون، فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خُلقت لها، وكأنهم إذن لم تُوهب لهم آذان وألسنة وعيون. وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة». ما فائدة الآذان التي لا تسمع الحق، وما فائدة العيون التي لا ترى البراهين الدالة عليه، وما فائدة الألسن التي لا تنطق به؟ وعذرهم في كل ذلك (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)!. فليس غريباً إذن أن يشبههم الله بالأنعام، بل هم أضل.

285

| 04 سبتمبر 2025

من صدمات يوم القيامة

واحدة من الآيات العظيمة في سورة يونس، تلك التي تصور لك مشهداً من مشاهد القيامة تجعلك بعدها تحتقر العاجلة الفانية، التي يتقاتل بنو آدم عليها وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، زائلة غير دائمة، مهما عاش فيها بنو آدم سنوات عديدة وأزمنة مديدة. الحياة الدنيا في حقيقتها ما هي إلا ساعة من نهار، مقارنة بما يراه البشر يوم القيامة. حيث سيدرك بنو آدم هذه الحقيقة يومئذ حين يحشرهم ربهم يوم القيامة. إذ ما أن تبدأ المقارنات حتى يتفق الجميع فيما بينهم على المدة (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) وليست المشكلة في قصر المدة، بل النتيجة النهائية التي ستتضح جلياً للذين كذبوا بالقيامة ولقاء الله (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين). إنها صدمة من صدمات يوم القيامة للذين كانت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.. المحشورون مأخوذون بالمفاجأة - كما يقول صاحب الظلال - شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار. إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى، ثم يذهبون. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا، ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة، ثم يرحلون! العبرة إذن، ليست فقط في فهم حقيقة قصر مدة الحياة الدنيا، إن كانت ساعة من نهار أو أكثر فحسب، بل ماذا يقدم المرء منا في هذه الساعة القصيرة، لحياة أبدية طويلة، أو بلا نهاية لها؟ وأسرّوا الندامة إذن وبعد بعد أن يذهل أهل المحشر من إدراك حقيقة أمد الدنيا وكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف بينهم، سيزداد ذهولهم أكثر فأكثر لاسيما الظلمة، من حقيقة هذا اليوم الذي طالما كذبوا وقوعه، بل استهزأوا بمن يتحدث عنه ويعد الناس بالثواب والعقاب فيه.. سوف يُذهل المجرمون (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) أي لو أن هؤلاء المجرمين الظلمة ملكوا ما في الأرض من كنوزها وثرواتها لأجل أن يفتدي أحدهم نفسه مما ينتظره من عذاب أليم، لما تردد في الفداء.. لكن هيهات هيهات (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم - كما يقول الزمخشري في الكشاف - وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه، ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب. أمام المحكمة الإلهية يوم الدين، لا يفلت ظالم، ولن يضيع حق مظلوم (وقُضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) قيل بين المؤمنين والكفار، وقيل بين الرؤساء والأتباع، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم، واعلم كما يقول الرازي في مفاتيح الغيب، أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد وأن يقضي الله بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم، وتثقيل لعذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين. أولياء الله لا خوف عليهم من بين تلك المشاهد الصادمة، يأتي فريق مطمئن غير مفزوع ولا خائف. من هو هذا الفريق؟ إنهم ( أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). إنهم في مأمن من صدمات القيامة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يخافون يوم القيامة حين يخاف الناس.. لكن من هم هؤلاء، أو من هم هؤلاء الذين يسميهم القرآن بالأولياء، والذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ إنهم بكل وضوح كما يقول القرآن (الذين آمنوا وكانوا يتقون). نعم، إنهم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى. الذين راقبوا الله في أعمال القلب والجوارح. روي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إنّ من عباد اللّه لأناساً ما هُم بأَنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأَنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم، وما أعمالهم، فإنّا نحبهم لذلك ؟ قال: «هم قوم تحابوا في اللّه بروحِ اللّه على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فواللّه إنّ وجوههم لنور وإنّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). وقد روي عن عبدالله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغير واحد من السلف أن أولياء الله الذين إذا رُءوا ذُكِر الله. أي أنهم أولئك الذين يُذكر الله لرؤيتهم، لما عليهم من سمات الصلاح والتقوى والخير.

402

| 28 أغسطس 2025

اتق الله..

ماذا لو أن شخصاً، صديقاً كان أم أبعد في العلاقة من الصداقة والزمالة، جاء ناصحاً لك ومشفقاً أميناً في نصحه وقال: اتق الله؟ كيف هو رد فعلك الفوري؟ في العادة، إن كنتَ صاحب سريرة ونية طيبة، ستعتبر ذلك نصحاً منه لوجه الله، لا يريد منك جزاءً ولا شكورا.. لكن هل كل الناس مثلك، أو من نفس طينتك، كما تقول العامة؟ بالطبع لا.. لأن الناس أمزجة وأذواق وعقليات متنوعة، وبالتالي إن كنت أنت من النوعية التي تتقبل النصيحة، مهما كانت شكلها ومعانيها وشدتها وثقلها، فهناك نوعية أخرى تختلف عنك، تكون بواطنها مليئة بالشكوك والتوترتات والقلق، وليس من السهل عندهم تمرير نصيحة أحد هكذا بالسهولة التي تعاملت أنت معها. تجده لا يقبل النصح غالباً، حتى وإن كان مقتنعاً تمام القناعة أن من ينصحه لا يبتغي منه جميلاً، ولا يقصد إهانته، أو إحراجه، أو أي شيء من ذلكم القبيل. لكن هكذا هي نفسيته ومزاجه. وليته يكره النصيحة ويمضى في حال سبيله لهان الأمر، لكنه يزيد الأمر سوءاً بالنقاش الذي قد يتطور عنده ليكون حاداً مريباً، ويبدأ النقاش ينعطف نحو تطورات تكون غالباً غير محمودة العواقب ! مثل هذا يقول عنه القرآن في مواقف النصيحة والموعظة (أخذته العـزةُ بالإثم). لا يدرك مثل هذا أن الذي نصحه أو قدم له النصح في موقف ما، إنما غايته تذكيره بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه - كما جاء في ظلال القرآن - حيث أنكر أن يُقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجّه إلى التقوى؛ وتعاظمَ أن يُؤخذ عليه خطأ، وأن يُوجّه إلى صواب، وأخذته العزةُ لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير، ولكن بالإثم، فاستعـز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذكّر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء «. نفوس خبيثة قميئة في باطنها، وإن بدا عليها الجمال والحُسن وحب الخير في ظاهرها. نفوسٌ تستوجب منك حذراً متواصلا. الناصح الحذر اليوم ترى كثيرين من هذا الصنف حولك في بيئة العمل أو خارجه أو حتى بيئتك الاجتماعية القريبة كالبيئة العائلية، حتى صار المرء منا دقيقاً حذراً في مسألة إسداء النصح، أو إن شئت أكثر وضوحاً، في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى صار أحدنا إن أقدم اليوم على النصيحة، يكون حذراً محتاطاً للمسألة، دقيقاً في ألفاظه ومصطلحاته، لئلا تُفهم بصورة غير مرغوبة ولا مقصودة بالأساس، وعلى وجه أخص عبارات أو كلمات قد توحي لمن تُوجّه إليه تلكم الكلمات، أنها تقليل من شأنه، ومحاولة لإحراجه أو نوعاً من الشماتة فيه، كقولك له (اتق الله) أو (خاف الله) كأبرز العبارات التي تُقال في المجالس والمنتديات العامة، حيث يعتقد كثير من المنصوحين أن من يستخدم تلك العبارات آنفة الذكر، إنما يريد إظهارهم أمام الآخرين بقلة العلم الشرعي، أو ضعف إيمان أو غيرها من توهمات وتصورات لا أساس لها. من هنا يمكن القول بأنه مثلما نطالب الناصح دوماً اختيار ألفاظ ومصطلحات وتوقيتات مناسبة للنصح، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فإنه كذلك مطلوب من المنصوح عدم إساءة الفهم فور تلقيه نصيحة ما، وعدم الارتياب من الموقف، أو إساءة الظن في الناصح، وإنما عليه ضبط النفس قدر المستطاع أولاً، ومن ثم محاولة الاستزادة في توضيح ما يمكن أن يكون قد اختلط عليه، أو استشكل عليه، قبل أن يرتاب أو يسيء الفهم، ويزيد المسألة تعقيداً وهي في الأساس سهلة يسيرة، وما حدثت ووقعت إلا لمنفعته ومصلحته هو قبل غيره. إهداء العـيوب ليكن شعارنا إذن، ونحن في سياق الحديث عن آداب النصيحة، قول الفاروق عمر حين كان يردد:» رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي». وقد يقول أحدكم: وأين نحن من الفاروق عمر؟ نعم، هو تساؤل معقول. فأين نحن من عمر رضي الله عنه؟ لكن مع ذلك، هو وبقية الصحابة، قدوة حسنة للأمة إلى يوم الدين، ومن قبلهم بالطبع، رسولنا الحبيب، عليه الصلاة والسلام. فلا نتعذر بمسألة المقامات، فإنما أولئك العظام من البشر هم قدوات صالحات لنا، نتعلم منهم ونقتدي بهم. إن شخصاً في مقام أمير المؤمنين حين يسأل أصحابه عن عيوبه، هو أمر نادر الحدوث قديماً وحديثاً. لاحظ هاهنا تواضع الفاروق، وهو رئيس دولة عظمى حينها، وأحد العشر المبشرين بالجنة، والوزير الثاني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك كان دوم البحث عمن ينصحه ويبين له عيوبه إن كانت له أو ظهرت منه دون أن يدركها، حتى سأل ودعا بالرحمة لمن يقوم بنصحه، واستخدم كلمة لطيفة عميقة هي (أهدى) كما لو أنه يريد القول بأن من ينصحه فكأنما يقدم له هدية.. وهكذا في ختام هذا الحديث، أدعو نفسي وإياكم لبذل ما نستطيع إليه سبيلاً من جهد، للاقتداء برسولنا الحبيب، عليه الصلاة والسلام أولاً، ومن ثم سلفنا الصالح الراشد، رضي الله عنهم وأرضاهم.

252

| 21 أغسطس 2025

من منا لا يحب المديح؟

يكذب عليك من يقول لك إن صدره واسع رحب يقبل النقد، وإنه في الوقت ذاته لا يهتم بمديح هذا أو ذاك! هذا يخالف الفطرة البشرية. فما من إنسان لا يحب المديح والإطراء، وما من إنسان كذلك يتسع صدره للنقد ويقبله. نفوسنا ذات طاقة محدودة. قد يصبر أحدنا على منتقديه لبعض الوقت، لكن بالطبع ليس كل الوقت. وربما بعضنا لا يميل للمديح، لكن من المؤكد أن نفسه تطرب لمدح من هذا أو ذاك وتلك. هذه هي النفس البشرية، ومن الصعب مقاومتها وضبطها لتسير وفق نظام معين. فهذا ليس بمستطاع أي أحد سوى الأنبياء المعصومين، وبعض أولياء الله الصالحين، وقليلٌ ما هم. هذه خلاصة موضوع اليوم، لكن هناك بعض زيادات وتفصيلات لمن أحب أن يكمل معنا القراءة.. بادئ ذي بدء، لا شيء أن تمدح الآخرين أو العكس، خاصة إن وجدت فيمن تريد مدحه، أو وجد الناس فيك ما يستحق أو يستوجب المدح دون مبالغات، أو مجاملات كاذبة. فقد مُدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع ويرى، بل ليس هو من يحتاج مدحاً من أحد، فيكفيه مدح ربه له في قوله تعالى (وإنك لعلى خُلُق عظيم) فليس بعد هذا المدح من مديح. كما أنه صلى الله عليه وسلم مدح الكثيرين من أصحابه، ولكن مع ذلك في الوقت نفسه، كان يحذرهم من الإفراط في المديح، كما في حديث «إياكم والتمادح، فإنه الذبح». أما لماذا شبّه المدح بالذبح، فلأن الإفراط في هذا العمل من شأنه أن يميت القلب أولاً، ومن ثم هناك احتمالية كبيرة ثانياً، أن يُخرج هذا المديح المستمر، الشخص الممدوح، عن تعليمات دينه، لتراه بعد حين وقد اغتر بأحواله، وربما يبدأ يسيطر عليه شعور كاذب من العُجب والكبر، ليرى نفسه دوماً وأبداً أهلاً للمديح، لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا بزينتها وأضوائها وبريقها. مدح الأحياء أم الأموات هذا الأمر لا يقتصر على من يقوم بأعمال دنيوية فحسب، بل يشمل كذلك علماء الدين والدنيا، الأمراء والرؤساء، ومن على شاكلتهم في المستويات والدرجات، العليا منها والدنيا. احذر أن تمدح عالماً، أو مفكراً، أو صاحب رأي، أو رئيساً، أو مرؤوساً، إلا بالقدر الذي يستحقه دون مبالغات ومجاملات، فإنك لا تدري بعد حين من الزمن، طال أم قصُر، ما عساه أن يفعل ويقول. إن أردت مدح صاحب رأي، أو علم، أو رياسة ووجاهة، مدح حق، فليكن لمن مات على هذا الحق. أما قبل ذلك، فالحذر مطلوب. فقد يكون الممدوح اليوم على حق مبين، ثم ينقلب على عقبه بالغد، فيصير ناصراً لباطل هنا أو ظالم هناك، غير مكترث بما كان عليه بالأمس القريب، والقلوب بيد الرحمن، يقلبها كيفما شاء. المدح مطلوب بعض الوقت ولغايات مقصودة. منها تعزيز الممدوح ليستمر على ما تم مدحه عليه، من عمل أو قول. ومنها رسالة للآخرين على الاقتداء بالممدوح في الأمر الذي استوجب مدحه عليه. ومنها إشاعة روح التقدير والمكافأة المعنوية بين الناس، وخاصة إن كان المدح يصدر من رئيس لمرؤوس. لكن يكون خطراً وغير مقبول حين يصل إلى حد المبالغة والإفراط، أو المديح لكل همسة ولمسة. هذا بشكل مختصر كل ما يتعلق بالمديح. النقد لمجرد النقد أما ما يتعلق بالنقد والتقييم، وهو الجانب غير المرغوب عند أغلب البشر، فله قواعده وأصوله أيضاً. فكما أسلفنا بأن النفس الإنسانية تميل إلى المدائح والإطراءات، فإنها تمتعض وتنقبض من الانتقادات وإظهار السلبيات، وإن كانت نقداً بنّاء هادفاً فيه الكثير من الصواب، ورغبة في الإصلاح والتقويم. فهكذا هي النفس البشرية بشكل عام، إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم تلكم النفوس. فعل النقد الهادف البنّاء لا يحدث إلا بهدف التصحيح والتوجيه، والحيلولة دون وقوع أخطاء مرة أخرى. هذا هو النقد المطلوب. لكن إذا كان أداء فعل النقد لمجرد النقد، وحباً في توبيخ الآخرين، أو من باب الشماتة، فهذا مرض من أمراض القلوب، وفعل غير محبوب ولا مرحب به في أي زمان وأي مكان. لكن مع ذل، فهو مرض يمكن علاجه مع الوقت. وهذا موضوع آخر قد نتحدث فيه في قادم الأيام بإذن الله. رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، كما يقول الفاروق عمر، الذي كان يسأل سلمان الفارسي دوماً عن عيوبه، حتى إذا قدم عليه مرة، قال له عمر: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه. فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حُلتين. حُلة بالنهار وحُلة بالليل. قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا. قال: أما هذان فقد كفيتهما. قصة الفاروق عمر مع سلمان الفارسي رضي الله عنهما، نموذج لما يجب أن يكون عليه الناقد والمنقود أو المنتَـقـَـد. الشاهد من القصة أن عمر وهو من هو يومئذ، لم يتحفظ أو يضق صدره على ما كان يراه سلمان في فعله، وأنه جزء من ترف وبذخ غير مبرر وهو رئيس للدولة، بل تقبل الفاروق نقد سلمان بصدر رحب، وعالج ما كان يراه سلمان عيباً، فأثبت بذلك الفاروق أنه نعم الرئيس، وأثبت سلمان أنه نعم المرؤوس. وهذا هو المطلوب من الناقد والمنتَقد. الأول يبتغي من نقده وجه الله، وأن يُصلح بنقده. أما الثاني مطلوب منه تقبل النقد الهادف البنّاء، بل وشكر ناقده وتعظيم الأجر له إن كان بالمستطاع، وأقل ذلك الدعاء له (رحم الله من أهدى إليّ عيوبي) كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أو كما جاء عنه في مناسبة أخرى (أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي). خلاصة القول من جاءك ورفع إليك عيباً، أو مجموعة معايب رآها، فلا تحزن ولا تبتئس، بل أقبل عليه بجوارحك تسمع إليه وتنصت، ثم ادع له بظهر الغيب، وقبل ذلك تشكره وتثني عليه. إن مثل هذا كمثل جوهرة نادرة رزقكها الرازق بغير ميعاد. أفلا تحتاج هذه الجوهرة منك كل رعاية واهتمام؟ الجواب عندك، فانظر ماذا ترى.

333

| 07 أغسطس 2025

هـدم غـزة انكسار للصهينة !

ما يجري في غزة ليس بالغريب في تاريخ أمتنا، ما شهده تاريخنا من كوارث ومذابح ومجازر في الحواضر الإسلامية المختلفة قديماً، كانت أسوأ وأبشع مما يجري الآن في غزة، لكننا أمة تنسى سريعاً، إضافة إلى أنها لا تقرأ تاريخها، فضلاً عن تواريخ الآخرين، وبالتالي لا تستفيد ولا تتعظ من دروس التاريخ الكثيرة المتنوعة. من يقرأ في كارثة اجتياح المغول المتوحشين لعاصمة الخلافة الإسلامية بغداد سنة 656 هجرية، وما كتبه المؤرخون عن مشاهد أربعين يوماً وليلة عاث المغول في بغداد فساداً غير مسبوق لهم مع الآخرين، ليشيب من هوله الولدان. المغول منذ ظهورهم وهم غارقون في القتل والنهب والأسر والهدم.. يصلون ضمن طريقهم إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون بعض أطفالها. لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو شيء من نبل المحاربين والفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم.. دولة همجية انطلقت من أقصى شمال الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب، وتعاند البناء والصناعة والحياة. ما يقع اليوم في غزة العزة، شبيه بتلك التي كتب عنها ابن الأثير، وهي حادثة دخول المغول إلى العالم الإسلامي، واشتغال آلات تدمير الحرث والنسل التترية في حواضرها واحدة بعد أخرى، وصولاً إلى بغداد، فقال وهو يهم بكتابة أحداث تلك الفترة:» لقد بقيت عدة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسياً. إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ما أشبه اليوم بالبارحة الفواجع والكوارث التي كسرت بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية أو الدولة العباسية، رغم وجود دول وممالك إسلامية حينها، مثل الدولة الأيوبية في مصر والشام، والدولة المملوكية في مصر والشام أيضاً، والدولة الخوارزمية في آسيا الوسطى، والدولة الغورية في أفغانستان وشمال غرب الهند، بالإضافة إلى الدولة الأموية في الأندلس، هي نفسها تتكرر في غزة ومواقف الدول المسلمة منها، الشبيهة بمواقف الدول والممالك الإسلامية بالأمس مع بغداد، حيث الخلافات والتنافس والتناحر بينها، حيث ترك الجميع يومئذ بغداد تواجه مصيرها، ظناً منهم أن التوحش المغولي سيتوقف بعد كارثة بغداد، فكان ظناً غبياً، واستشرافاً قاصراً للمستقبل. أنهى المغول، بسبب تلكم الأمور مع الأنانية المفرطة التي سيطرت على كل دولة إسلامية، وعلو شعار نفسي نفسي يومئذ، معظم تلك الحواضر، وكان من الممكن أن تواصل الوحشية المغولية طريقها، لولا أن تدارك المسلمون الأمر أخيراً، بفضل الله ثم علماء بارزين لا يخافون في الله لومة لائم كالعز بن عبدالسلام، وقادة صنعهم الله على عينه، كالقائد المظفر سيف الدين قطز، فكانوا سداً حمى الله به حمى الإسلام، وكانت بداية النهاية لتلك القوى المتوحشة. التوحش والتجبر الصهيوني اليوم لا يختلف عن المغولي في تلكم الفترة، فإن كسر غزة يعني مواصلة الصهاينة رحلة التجبر نحو المحيط العربي والإسلامي، ما لم يحدث حادث وتقع عين جالوت جديدة. ظني أن غزة اليوم تعيد سيرة قطز والمماليك المؤمنين ضد المغول الكفرة الفجرة، وتعلن للعالم رغم كل الضغط الممارس عليها من قوى الغرب والشرق، أن هناك نفوساً عظيمة أبية شامخة تأبى الذل، وتفهم لغة وعقلية العدو، وأنها هي التي تمسك بمفاصل القطاع، ولن يخدعها مخادعون سياسيون فجرة من الغرب والشرق. نفوس تربت على العزة والإيمان بأن الله مع المتقين، ومع الصابرين، ومع الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. هؤلاء لم ولن يفهمهم أي سياسي مخادع، غربيا كان أم عربيا. غزة عين جالوت جديدة لن يفهم هؤلاء الصهاينة والملحدون ومن على شاكلتهم، أن من يعيش في غزة يرجون أن يكونوا ضمن من ذكرهم النبي الكريم في حديثه: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم..»، فربما هذا الرجاء في نفوس المجاهدين الغزيين هو الذي دفعهم لهذا الثبات والصمود والشموخ الأسطوري أمام أعداء الله منذ أن نزل وباء الصهيونية على فلسطين. إنّ استرداد الحقوق لا يمكن تحقيقه بمفاوضات عبثية، ومؤتمرات فارغة ووعود كاذبة. وما كان طوفان الأقصى إلا نتاج فهم عميق ووعي تام لتجارب السابقين التاريخية قديماً، ومن ثم في بلاد الأفغان مع الأعداء حديثاً، ودروس أخرى متنوعة من تاريخ هذه الأمة. ولهذا يمكن القول إن غزة ستكون بإذن الله عصية على القاصي والداني، الصليبي منهم أو الصهيوني اليهودي. مثلما انكسرت شوكة المغول في عين جالوت، وكانت بداية النهاية لجحافل الإجرام والدمار، فكذلك ما يحصل الآن في غزة، ستكون بداية نهاية عصر الصهيونية بإذن الله، فلا ترعبنكم مشاهد الهدم والدمار والقتل في غزة، فما جرى في بغداد سنة 656 هجرية لا يمكن مقارنته بغزة، رغم أن النفوس المسلمة عزيزة غالية في كل زمان ومكان، لكن هكذا التحولات التاريخية العظيمة تحتاج تضحيات ودماء وشهداء. وإن ما جرى من دمار وانكسار مادي ونفسي في جيش الصهاينة وحاضنتهم الشعبية منذ بداية طوفان الأقصى، وانكشاف أمرهم ووجههم البشع للعالم كله، ليس بالمكسب الذي يتم التقليل من شأنه، فإنها مؤشرات ودلائل على نهاية هؤلاء المجرمين التي اقتربت كثيراً (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).

498

| 24 يوليو 2025

حين يكون مجنون عظمة صاحب قرار

الوهم بحسب التعريف الطبي هو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله. وهو أنواع عديدة لن نسترسل ونتحدث عن تلكم الأنواع سوى نوع واحد هو ما يسمى بوهم العظمة، أو ما يسميه الأطباء بجنون العـظمة، الذين قالوا في تعريفاتهم إنه مزيج من مشاعر وأفكار ناتجة عن شعور مبالغ فيه من القلق، أو الخوف، أو الاضطهاد، أو التهديد، أو التآمر، بحيث تتحول تلك المشاعر أو الوهم بعد حين من الدهر قصير، إلى معتقدات غير حقيقية، لكن يؤمن بها من يعيش هذا الوهم أو جنون العظمة. قد تلعب الجينات أو الصفات الوراثية في صناعة هذا الوهم في الإنسان، لكن العنصر الأهم في ابتلاء المرء بهذا الوهم، هو البيئة المحيطة التي يعيشها من هو مبتلى بهذا المرض النفسي، إن صح وجاز لنا التعبير. فالمشكلات والاضطرابات العائلية، أو ما حولها تزيد من احتمالية أن يُبتلى المرء بهذا الوهم أو وهم العظمة، بحيث تراه بعد الابتلاء، أنه دائم الريبة والشك في الآخرين من حوله حتى يتعمق هذا الوهم عنده، ليبدأ يعتقد أن أي وجهة نظر أو انتقاد يسمعه أو يقرأه، إنما هي إشارات أو رسائل تقصده هو دون غيره، أو أن أفعالهم وأقوالهم لابد أنها موجهة ضده أو تقصده، بالإضافة إلى شعور خفي دائم عنده ويتعمق، مفاده أن دوره في البيئة التي يعيشها مهم، لكنه غير معترف به، وأن هناك من يسعى دوماً للانتقاص من قيمته وشأنه وإحباط جهوده!. إنّ أسوأ السيناريوهات في هذا الأمر، أن يُبتلى بهذا المرض من تؤول إليه الأمور بقدرة قادر ليكون صاحب قرار، كأن يكون رئيس دولة، أو وزيراً في دولته أو مديراً عاماً في شركة أو مؤسسة ما، أو مدير إدارة أو ما شابه من مناصب ذات صلاحيات.. فإن حدث وصار المبتلى بجنون العظمة صاحب قرار في كيان ما، دولة كانت أم وزارة أم شركة أم نحوها، فإن الأجواء مهددة بأن تتسمم وتحيطها سحب القلق والتوتر، وفي الوقت ذاته تنشط جماعات التطبيل أو النفاق، الباحثة عن مصالحها قبل أي شيء، حيث ترى في إحاطة هذا الموهوم بالعظمة، فرصة ذهبية لاحت لهم وربما لا تتكرر، إن هم لم يستغلوها في تحقيق أكبر كمٍ من المكاسب بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب. نموذج لمجنون عـظمة ربما وأنت تقرأ في هذا الموضوع، بدأت في استحضار نماذج من هؤلاء ربما أوقعتك الأقدار يوماً التعامل معهم، أو أنك ما زالت تتعامل معهم، وصرت مجبراً على تحمل الكثير من المعاناة والآلام لظروف حياتية أجبرتك البقاء تحت ظلهم.. قد يكون أفضل مثال تحدث كثيرون عنه وما زالوا، وربما سيأتي من يتحدث عنه مستقبلاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو ذاك الفرعون الذي كان في زمن موسى وهارون عليهما السلام. الفرعون الذي ارتكب جرماً لم ولا أظن أحداً من بني البشر سيرتكبه، حتى تساوى هو وإبليس في الدرجة. فأما إبليس فقد استكبر وعصى أمر خالقه لأوهام اعتقد بصحتها، فكان نصيبه الطرد من رحمة الله بشكل قاطع نهائي. وأما فرعون هذا، فقد ادّعى الألوهية ( فقال أنا ربكم الأعلى) ثم جاء في موقف آخر (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)! هكذا أوصلته أوهامه وجنون العظمة فيه إلى أن يدّعي الألوهية، في سابقة بشرية غير معروفة. هذا الفرعون هو أبرز نموذج بشري أصابه مرض الوهم، أو وهم وجنون العظمة، فكان بلاء على شعب مصر، سواء المصريون أو غيرهم كبني إسرائيل.. الجميع عانى من أوهامه وشكوكه وارتيابه في أغلب من كان حوله قبل غيرهم من عامة الناس، وتلك الأوهام تسببت بالضرورة في معاناة الناس تحت حكمه سنين طويلة، حتى انتشر الرعب والخوف في مملكته، فكان بلاءً وعذاباً مستمراً. النهايات البائسة لمجانين عـظمة استمرت أوهام الفرعون حتى آخر دقائق حياته في مشهد نهائي، أو مشهد وصوله إلى البحر وهو يطارد بني إسرائيل.. فقد كان مشهد انفلاق البحر لبني إسرائيل على يد موسى عليه السلام، مشهداً رهيباً، وإن لم يحضر فرعونُ وجنوده لحظة الانفلاق تلك، التي وبقدرة الله تحول قاع البحر إلى اثني عشر طريقاً يبساً على عدد أسباط بني إسرائيل. يقترب فرعون وجنوده من البحر بعد حدوث الانفلاق، حتى إذا أشرف على الماء، كما جاء في تفسير الطبري، قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله، إنّ القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، أي أعده إلى ما كان عليه حتى يكون حاجزاً بيننا وبين هذا المهووس بالعظمة وجنون الارتياب. فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه (أن اترك البحر رَهْوا) أي اتركه على حاله، فإنما أمكرُ بهم، فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم. فلما نظر فرعون المتكبر المتجبر إلى البحر قال: ألا ترون البحر؟ فَرَقَ مني حتى تفتّح لي حتى أُدْرك أعدائي فأقتلهم ! هكذا وصل به الظن والجنون والوهم، فسار هو وجنوده نحو بني إسرائيل، حتى إذا ما انتهى إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر أن خذ عبدي الظّالم وعبادي الظلمة، فإني قد سلطتك عليهم. فتغطغطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، أي غطست تحت تلك الأمواج. فغرق فرعون وجنوده ولم يخرج أحد من أولئك الظالمين، وفي الطرف المقابل يقف بنو إسرائيل مع موسى وهم ينظرون. نهاية دنيوية بائسة لمجنون عظمة، تنتظره حسابات أخروية أليمة. ولا أقول بأن نهايات كل مهووس أو مجنون عظمة تكون كنهاية فرعون، لكن من المؤكد أن المبتلى بهذا الوهم، والذي يخلو قلبه من إيمان بالله وحُسن ظن به، سيتعمق في أوهامه وجنونه حتى يرتكب آثاماً وكبائر ذنوب، خاصة إن وجد تفاعلاً إيجابياً يؤيد أفعاله وأقواله من لدن زمرة مطبلين أو منافقين منتفعين. ومن المؤكد أيضاً، أن نهايته ستكون بائسة يسجد كثيرون لله شكراً على خروجه من مشهد حياتهم. وللأسف أن أمثاله كثير اليوم كما كان بالأمس، ولا تتسع المساحة ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم.. فاللهم لا تسلّط علينا مجنون عظمة، لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

312

| 17 يوليو 2025

أين اختفى العلماء؟

«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم. العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء. العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة. إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات. تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها. فهل علماء اليوم كذلك؟ العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب. فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟ معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم. فهل أجدت نفعاً؟ العلماء بوصلة الأمة التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟ لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها. فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!. استقلالية العلماء المالية من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!. ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس. تأثير العلماء على مستقبل الدول إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول. مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد. الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة. خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة. إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

348

| 10 يوليو 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

3066

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3036

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2856

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2637

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2574

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1404

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1107

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

972

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

945

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

819

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

795

| 17 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يحلّق من جديد

في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...

759

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية