رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لو أوجزنا موقف دولة قطر كما جاء يوم الأربعاء على لسان معالي رئيس مجلس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، للخصناه في عنوان هذا المقال بعد جولة مفاوضات صعبة لوضع حد لمأساة غزة التي فاقت جميع مآسي العصر وتوالت مواقف الإسرائيليين أنفسهم تؤكد نفس المعنى فقد قال وزير الثقافة والرياضة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي ميكي زوهار: «إن إسرائيل فشلت ضد حماس في 7 أكتوبر وفشلت ضد حزب الله وستفشل أمام إيران».
وتابع: «لقد فشلت إسرائيل ضد حماس وحصلنا على 7 أكتوبر وفشلت ضد حزب الله الذي يهاجمنا باستمرار واستطاع إجلاء سكان الشمال وستفشل ضد إيران التي لم تتردد في مهاجمة إسرائيل مباشرة»، نحن حين نورد هذا الرأي الواقعي لأحد وزراء نتنياهو فإنما لنؤكد صحة الحكمة القائلة منذ طوفان الأقصى بأن أمرين أصبحا مستحيلين أمام كيان عنصري يبيد شعبا وهما تحقيق أمن كيانه وتحقيق انتصار جيشه على المقاومة الفلسطينية البطلة.
من جهتها نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مقالا للصحفي توماس فريدمان وهو أعرق خبراء الشرق الأوسط على الصعيدين الأمريكي و العالمي قال فيه: «إن دولة الاحتلال الإسرائيلي تقف اليوم عند نقطة إستراتيجية في حربها على غزة وتدل كل المؤشرات على أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سوف يختار الطريق الخطأ ويجر إدارة بايدن إلى رحلة خطيرة لا يقبلها بايدن»، وقال عن نتنياهو إنه «خطير ومزعج لدرجة أن الخيار الأفضل أمام إسرائيل في نهاية المطاف قد يتلخص في ترك بقية قيادات حماس في السلطة في غزة!.
وتابع فريدمان: «قلت في أكتوبر الماضي إن إسرائيل ترتكب خطأ فادحا بالاندفاع المتهور إلى غزو غزة كما فعلت أمريكا في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر.
اعتقدت أن إسرائيل كان ينبغي عليها أن تركز أولا على استعادة أسراها ونزع الشرعية عن حماس وملاحقة قيادييها بطريقة مستهدفة شبيهة بالرد على هجوم ميونيخ وليس مثلما فعلت أمريكا في درسدن في الحرب العالمية الثانية، ويشير فريدمان إلى أنه يتفهّم أن «العديد من الإسرائيليين شعروا بأن لديهم حقا أخلاقيا وإستراتيجيا وضرورة للذهاب إلى غزة وإزالة حماس. مرة واحدة وإلى الأبد». ولذلك، كان قد اقترح أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تحتاج إلى ثلاثة أشياء: «الوقت، والشرعية، والموارد العسكرية، وغيرها من الموارد من الولايات المتحدة؛ لأن هدفا مثل هذا يحتاج إلى وقت، ومن شأنه أن يترك فراغا أمنيا وحكوميا في غزة واسترسل قائلا: أرى أنه كان على دولة الاحتلال الإسرائيلي أن تخوض هذه الحرب «بأقل قدر من الأضرار الجانبية التي تلحق بالمدنيين الفلسطينيين وأن ترفقها بأفق سياسي لعلاقة جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين مبنية على دولتين قوميتين لشعبين أصليين لكن نتنياهو عوضا عن ذلك قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين وترك مئات الآلاف من الجرحى والنازحين والمشردين ممّا أدى بالنسبة للكثيرين في جميع أنحاء العالم إلى نزع الشرعية عما اعتقدت إسرائيل أنها حرب عادلة. أما من الناحية الدبلوماسية فيقول فريدمان: إنه «بدلا من ربط إستراتيجية الحرب هذه بمبادرة سياسية رفض نتنياهو تقديم أي أفق سياسي أو إستراتيجية خروج واستبعد صراحة أي تعاون مع السلطة الفلسطينية بموجب أوامر من المتعصبين اليهود الأعضاء في ائتلافه الحاكم، ويؤكد فريدمان أن هذه استراتيجية مجنونة تماما فقد أدخلت دولة الاحتلال الإسرائيلي في حرب لا يمكن كسبها سياسيا وانتهى بها الأمر إلى عزل الولايات المتحدة وتعريض مصالحها الإقليمية والعالمية للخطر وتقويض دعم الاحتلال الإسرائيلي في الولايات المتحدة وكسر قاعدة الحزب الديمقراطي للرئيس بايدن، لأن ذلك سيكون بمنزلة دعوة لاحتلال إسرائيلي دائم لغزة وتمرد دائم لحماس ومن شأنه أن يستنزف إسرائيل اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا بشكل خطير للغاية، وشدّد فريدمان على أن الأمر خطير للغاية وهو يعتقد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ستكون في وضع أفضل بالموافقة على مطلب حماس بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة ووقف إطلاق النار وتنفيذ الصفقة الشاملة أي تسريح جميع الأسرى الإسرائيليين مقابل جميع السجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم دولة الاحتلال الإسرائيلي، ونصح دولة الاحتلال الإسرائيلي باستعادة أسراها وإنهاء الأزمة الإنسانية في غزة والخروج منها وإجراء انتخابات جديدة وإعادة التفكير بعمق ورجا الاحتلال الإسرائيلي بألا ينجرف إلى أوحال رفح واحتلال غزة بشكل دائم، لأن ذلك سيشكل كارثة وتفقد إسرائيل أمنها عندما يصبح هذا الأمن موكولا الى حلفائها الغربيين.
وفي مجال (شهد شاهد من أهلها) نورد ما كتبه الصحفي (واليس سيمونز) رئيس تحرير الصحيفة اليهودية (جويش كرونيكل) أشار فيه إلى انتصار حركة المقاومة الإسلامية على عدوها الإسرائيلي دولة الاحتلال قائلا: «وها نحن بعد أكثر من ستة أشهر من الحرب الدموية ولا بصيص لتحقيق لهذا الوعد الكاذب» ونذكر أن الكاتب شدد على أن وعد رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بتحقيق نصر كامل وسريع هو على بعد خطوة واحدة فقط في قطاع غزة وتبين للعالم اليوم أن هذا الوعد لا يتعدى كونه «كلمات جوفاء»، وذلك في ظل انسحاب جيش الاحتلال وتصاعد المظاهرات المناهضة للحكومة اليمينية القائمة على الوعود السرابية بالموازاة مع مظاهرات كبيرة في أغلب مدن أمريكا وأوروبا! سيكون من الصعب أن أتخيل أنه بعد مرور ستة أشهر على السابع من أكتوبر أجد نفسي أقول ذلك لكن إسرائيل إما هي في طريقها إلى الهزيمة أو أنها خسرت الحرب بالفعل.
وفي ذات هذا السياق عنونت صحيفة (الأندبندنت) البريطانية مقالها الافتتاحي بـ: « نتنياهو يقود بلاده والمنطقة نحو الهاوية» قائلة: «لقد وعد نتنياهو بتحقيق “النصر الكامل” قائلا؛ إنه “على بعد أيام قليلة فقط” ولكن مع عودة القوات إلى الوطن واحتفال حماس ونزول المتظاهرين المناهضين للحكومة إلى شوارع إسرائيل بأعداد متزايدة تبدو هذه الكلمات جوفاء بشكل خاص ومن غير المعروف ما إذا كانت الانقسامات السياسية الكارثية التي أحدثها نتنياهو هي التي قادت حماس إلى إطلاق الحملة في 7 أكتوبر، لكن الأكيد أن أعداء إسرائيل ينظرون إلى المسيرات في شوارع تل أبيب ويشحذون سكاكينهم. وأيّا كانت مشاعر الإحباط التي نشعر بها إزاء إدارة الحرب المروعة لنتنياهو، فإن الطريقة التي مارست بها واشنطن ولندن سياساتهما لحكومة اليمين علنا ــ والتي حرمت إسرائيل الآن من النصر على ما يبدو ــ، تبعث بإشارة خطيرة إلى العالم وسواء نظرنا إليها من طهران أو موسكو أو بكين أو بيونغ يانغ أو رفح فإن الرسالة واضحة: قد نكون أقوى من أعدائنا لكننا لم نعد نمتلك الحكمة والذكاء اللازمين للوقوف في وجوههم ويرى حلفاؤنا ذلك بوضوح وعلينا أن نفتح أعيننا وبسرعة فالحرب في غزة لا تتعلق بمستقبل نتنياهو ولا حتى بإسرائيل في حد ذاتها لأن الأمر يتعلق بمصير الغرب وبالنسبة لي ولكم ولعائلاتنا لم يبدُ المستقبل أكثر خطورة من اليوم!.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2334
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
831
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
702
| 11 ديسمبر 2025