رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في خطوة قائمة على المبادرة العلمية لمركز الدوحة الدولي لحوار الأديان خارج الوطن، وفي جزء من جزيئات رسالتها التوعوية للإنسانية جمعاء نظم المركز بالتعاون مع جامعة سراييفو مؤتمراً دولياً حول "دور التعليم في تعزيز السلم العالمي والتسامح في جنوب شرق أوروبا" في العاصمة البوسنية بـ"سراييفو"، وشارك في المؤتمر قرابة ثلاثين باحثاً من (16) دولة متمثلة في وفد قطري من مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان برئاسة الدكتور إبراهيم النعيمي رئيس مجلس إدارة المركز، والدكتورة عائشة يوسف المناعي عضو المجلس الاستشاري للمركز وعميدة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وكاتب هذه السطور الدكتور يوسف محمود الصديقي.
وبقية المشاركين من جمهوريات يوغسلافيا سابقاً، والتي هي الآن على النحو الآتي:
— جمهورية البوسنة والهرسك؛ وعاصمتها سراييفو ونسبة المسلمين فيها 60 % ، ويتكون سكانها من أرثوذكس وكاثوليك.
— سلوفينيا؛ الأغلبية العظمى من سكانها كاثوليك.
— كرواتيا؛ الأغلبية من سكانها كاثوليك.
— صربيا؛ الأغلبية من الأرثوذكس.
— ومن ثم انفصلت كوسوفو عن صربيا، وأغلبيتهم أرثوذكس.
— الجبل الأسود؛ الأغلبية أرثوذكس.
— مقدونيا؛ أرثوذكس ومسلمون.
وقد شارك في المؤتمر أكاديميون وعلماء من فلسطين، والأردن، ولبنان، والبلقان، وايطاليا. وكل هؤلاء يمثلون أديانهم واتجاهاتهم الفكرية والأيديولوجية المختلفة.
وتناولت جلسات المؤتمر قضية التعليم، وخاصة في ما يتعلق بدور التعليم في تعزيز قيم التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، الذي يتكون من مكونات عدة ومختلفة في قومياتها وهوياتها، وحضارتها وركائزها ومنطلقاتها العقدية الدينية؛ وكيف لمجتمع بهذه التركيبة المعقدة والمتنوعة أن يعيش في سلم اجتماعي، الكل يحترم الكل، هذه هي المهمة الأولى التي اناطت بها الأوراق البحثية
وهذه التركيبة الاجتماعية والقومية المتنوعة والمختلفة هي بحاجة ماسة إلى تعليم، أو نهج تعليمي قائم على الاحترام المتبادل والتعايش والتفاهم والسلم بين هذه القوميات والديانات والتنوع الاجتماعي، وإلى الموضوعية العلمية والأمانة الأخلاقية التي تحتم على واضعي المناهج التعليمية أن يراعوا الدقة والأمانة عند التحدث عن الأديان وأهل الأديان، وأن نستسقى دراسة الأديان من منابعها الأصلية؛ وهي في حالة صفائها ونقائها، والبعد عن الآراء المتعددة عن المسألة الواحدة، والقضايا والمسائل الخلافية، وخاصة في ما يتعلق بالأديان على الأقل في الوضع الحالي إلى أن تستقر الأمور وتهدأ النفوس، وبعد ذلك للنواحي الأكاديمية أن تتطرق إلى هذه المسائل والقضايا التي فيها وجهات نظر واختلاف؛ وهذا في واقع الأمر يسمى بـ "فقه الواقع" الذي يلزمنا أن نفهم الواقع الذي نعيشه، ومن ثم نتحرك في ثناياه.
ولنا أن نبين الواقع " البوسني" الذي يتطلب منا نحن المتخصصين في المناهج الأكاديمية وفي وضعها أن نفهمه قبل أن نتحدث عنه، أو أن نضع له مناهجه التعليمية أو الفكرية الخاصة به.
وعليه نقول: — إن من تتبع الحرب على البوسنة 1992 — 1995م لاحظ بشكل لافت للنظر أن الحرب ما طالت البشر الأبرياء فقط في ما عرف بالتطهير الاثني، وإنما طالت أيضاً مراكز الذاكرة الجماعية الجامعة للحس الجمعي في ما عرف بالتطهير الثقافي الذي شمل تدمير مراكز الوثائق والمخطوطات والمكتبات والمساجد، والجسور التاريخية ذات العبق التاريخي الإسلامي القديم، كل ذلك بهدف مسح الذاكرة الجماعية القائمة، ومن ثم يقوم المنتصر بكتابة التاريخ كما يريده، وهذا للأسف الشديد ما يحدث في الحالة العراقية التي تقوم بمسح الذاكرة الثقافية والتاريخية والعقدية لأهل السنة في العراق، حيث أخذ الوضع السياسي العراقي ينهج عين النهج الذي اتبع في البوسنة، حيث تم تحويل عدد من المساجد السنية إلى حسينيات شيعية، وعدد من الكليات والجامعات السنية التي كانت قائمة على نهج السنة تم تحويلها إلى جامعات وكليات شيعية، والاستلاء على اوقاف أهل السنة وتحويلها إلى أوقاف شيعية وغير ذلك من الأمور الإدارية التي اتخذت ضد أهل السنة؛ وفي هذه الحالة يعتبر أهل السنة أن بقاءهم على قيد الحياة في مواجهة الوضع الشيعي المقيت — على شكله الحالي — هو نوع من الانتصار، ولكنه في حكم الواقع هو انكسار وانحصار للذات، وانهزام لأهل السنة كجماعة ودولة أو قل كدول إسلامية، والتي ينبغي عليها أن تكون موحدة وقوية، ولها دور فعال على الساحة الإسلامية والفكرية. وكذلك على المجامع والاتحادات الإسلامية التي ما أكثرها، والتي لا تقدم ولا تؤخر، وأن بعض هذه الاتحادات الإسلامية تخرج علينا بفتاوى وأحكام ووجهات نظر في مجملها لصالح الحكومات السياسية الممنهجة للطائفية الضيقة والمقيتة.
هنا نتساءل ونقول: هل أصحاب هذه الفتاوى والأحكام التي تصدر لصالح الحكومات الطائفية الضيقة هم في غفلة عن أمرهم، ولا يدركون أن أهل السنة في العراق مستهدفون هم وتاريخهم وذاكرتهم الثقافية ومنطلقهم العقدي هو الآخر مستهدف؟
هذا عينه ما وقع في البوسنة والهرسك، غير أن عدداً كبيراً من العلماء والأكاديميين البوسنيين قد تصدوا لمهمة التدمير والقضاء على ذاكرتهم الثقافية؛ والتي تسمى في عالم الاصطلاحات والمفاهيم بالتطهير الثقافي، ومن هؤلاء العلماء المؤرخ الشهير العلامة " مصطفى إمامونيش" وبجواره الأكاديميون خلال الحرب التي وقعت عليهم، والحصار الخانق 1992 — 1995م وقد أصدروا مجموعة من المؤلفات التي تثبت وتؤكد على تاريخهم الثقافي والإسلامي.
وذكروا في مؤلفاتهم تلك أن للدين دوره في تمايز البوسنة فيما بين الجارين القطبين المجاورين: صربيا وكرواتيا. وفي ذلك الوقت اعتبرت البوسنة مركزاً للزندقة والهرطقة، ذلك أنهم كما يعتقدون أن أهل السنة قد خرجوا عن الدين الصحيح، الذي هو الدين المسيحي الكاثوليكي والأرثوذكسي، وذلك لأن في البوسنة كنيسة مخالفة للأرثوذكس والكاثوليك، وهي الكنيسة البوسنية أو اليوغوييلية، واستمر هذا الوضع حتى عهد الفتح العثماني للبوسنة، والذي بقى في عهده على مسافة واحدة للكنائس المسيحية، حيث ابقى للكنيسة البوسنية على مالها من مبادئ وعقائد وقيم مسيحية، وفي تمايز سكانها عما في الكنيسة الصربية الأرثوذكسية والكنيسة الكرواتية الكاثوليكية، وهذه العدالة الإسلامية في منهجيتها الخاصة بالتعامل مع الأديان وأصحابها، مكنت البوسنيين من القدرة على أن يحافظوا على وحدة أراضيهم واسمها وسياستها المميزة، وعلى الرغم من الأنظمة السياسية المختلفة التي مرت عليها خلال (1500) سنة خلال الحكم العثماني 1463 — 1878م، والحكم النمساوي المجري واليوغسلافي.
على كل فهذه صورة بسيطة ومختصرة عن الوضع السياسي والاجتماعي والتعددي والتاريخي للبوسنة والهرسك.
كلمة شاملة: كم هي البوسنة بحاجة إلى مؤتمرات وندوات مشابهة لمؤتمرنا هذا الذي حمل عنوان "دور التعليم في تعزيز السلم العالمي" وتبادل الآراء والمقترحات ووجهات النظر حول المناهج الدراسية، والخطوات العملية لبسط ثقافة التعايش بين أبناء الوطن الواحد، وعلى قاعدة الاحترام والتبادل الثقافي والتعايش السلمي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4785
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3474
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2865
| 16 أكتوبر 2025