رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دور الدول الصغيرة في النظام الإقليمي والدولي محدود التأثير للتباين الواضح بين قدرات الدول الصغيرة وجيرانها الكبار بمشاريعهم التي عادة تكون على حساب الدول والكيانات الصغيرة. خاصة إذا كانت أنظمة تلك الدول الكبيرة والقوية لا تخضع لرقابة ومحاسبة القادة للحد من تجاوزات تلك الأنظمة.
تلعب الدول الصغيرة لعبة توازنات صعبة في إقليمها لتعزز أمنها وتحمي سيادتها ومصالحها بما تملكه من أوراق قوة ناعمة. لكن ذلك الواقع ليس عائقاً لإبداع وتميز دول صغيرة لتتجاوز الصعوبات ولا ترضى أن تبقى أهداف سياساتها الخارجية محدودة ومتواضعة. مع الأخذ في الحسبان أهمية التعايش مع الواقع الجيو-سياسي، بعدم انتهاج مواقف يفسرها جيرانها الكبار إقليمياً ودولياً مستفزة وتعارض وتهدد مصالح ومشاريع الدول الكبرى.
شهدنا أربعة حروب خلال الأربعة عقود الماضية في المنطقة: الحرب العراقية-الإيرانية وحرب احتلال صدام حسين لدولة الكويت وحرب تحرير دولة الكويت وحرب اسقاط نظام صدام حسين والحرب على التنظيمات الإرهابية المستمرة حتى اليوم. وهذا ما يجعل إقليمنا صعباً!
تؤكد نظريات الواقعية والسلوكية والبنائية على محدودية دور «الدول الصغيرة في العلاقات الدولية»-Small States Actors. لكن ذلك لا يمنع صناع قرار دول صغيرة لعب دور مميز تعوض محدودية القوة السياسية والعسكرية والديموغرافية، بقوة ناعمة مميزة.
شهدنا ذلك بسياسية خارجية الكويت النشطة في ستينيات حتى ثمانينيات القرن الماضي. برغم صغر حجمها وديمغرافيتها، لعبت الكويت أدواراً تجاوزت التحديات بعقيدة سياسة خارجية نشطة بهدف «صنع السلام»، وحل النزاعات بدبلوماسية الوساطة ودبلوماسية القروض والدعم التنموي بذراع قوتها الناعمة، أول صندوق عربي-صندق التنمية الاقتصادية العربية- «الصندوق الكويتي» يقدم مساعدات وقروضا ميسرة منذ عام 1961 للدول العربية والإسلامية ودول حول العالم تجاوزت 105 دول وأكثر من 1000 قرض بقيمة 22 مليار دولار. وذلك لتحسين الأوضاع المعيشية والسكانية والحياتية لملايين البشر.
كما ساهمت الدبلوماسية الكويتية النشطة بحل نزاعات وإنهاء خلافات بين دول عربية-عربية وفي المنطقة وخارجها. وهكذا نجحت الكويت بتعويض محدودية قدراتها بأن يكون لسياستها الخارجية المدعومة بالوساطة النشطة والمساعدات والقروض التنموية، تعزز مكانتها ودورها وسمعتها. شهدنا ذلك بوساطة حل الأزمة الخليجية.
واليوم نشهد إنجازات دولة قطر على عدة أصعدة. ونجاحها بمزج وصهر أنواع القوة الناعمة في بوتقة مميزة لتتغلب على وضعية الدولة الصغيرة في إقليم صعب. بلعب دور بناء ومؤثر تجاوز منطقة الخليج لتساهم بحل أزمات وصراعات.
نجحت دولة قطر بمزج قدراتها العديدة في مجال أمن الطاقة والثقافة، والفنون، والرياضة والتعليم. وخاصة بتطوير قدرات الغاز المسال لتصبح بين الدول الأهم المصدرة للغاز المسال في العالم. وترتبط بعقود طويلة الأمد مع الصين ودول آسيوية وأوروبية في مجموعة العشرين.
ومع تصاعد حرب روسيا على أوكرانيا برز الغاز المسال القطري مصدراً مهماً لتعويض النقص في إمدادات الغاز الروسي، بسبب العقوبات الأوروبية والمقاطعة. تصنف قطر اليوم الدولة الأولى المنتجة للغاز المسال بطموح 126 مليون طن مكعب بحلول 2027 عام. وبأكبر أسطول لناقلات الغاز المسال في العالم.
كما رسخت دولة قطر الثقة بكونها شريكا وحليفا موثوقا يفي بالعقود. فلم تتخلف عن تصدير شحنة من شحنات الطاقة من نفط وغاز لشركائها إبان الأزمة الخليجية والحصار. كما لم تقطع قطر خط دولفين لإمدادات الغاز عن دولة الإمارات طوال الأزمة الخليجية. ما أكسب قطر احتراماً كشريك موثوق.
كما برزت قوة قطر الناعمة في قطاع التعليم بالمدينة التعليمية واستضافة أفرع لجامعات أميركية وأوروبية وجامعة حمد بن خليفة ولمراكز فكرية مميزة.
كما نجح استثمار قطر في قطاع الإعلام بإنشاء شبكة الجزيرة الإعلامية لتصبح أهم مؤسسة إعلامية والأكثر مشاهدة في الدول العربية. كما تحظى بمتابعة عالمية بالجزيرة إنجليزية. ونجحت قطر بتنويع قدراتها الإعلامية والرياضية بإطلاق أهم شبكة رياضية (BeIN Sports)-وحق بث حصري للدوريات العالمية الأهم.
تتوجت قوة قطر الناعمة باستضافة مميزة لكأس العالم لكرة القدم في الدوحة، ولأول مرة تستضيف دولة خليجية-عربية-إسلامية-شرق أوسطية أهم حدث رياضي على مستوى العالم. وأبدعت بالاستضافة التي كرست مكانة قطر على خريطة الدول القليلة التي تنجح وتتميز باستضافة الحدث الرياضي الأهم-كما وظفت قطر البطولة بذكاء لتعرّف بالثقافة والحضارة العربية وسماحة الإسلام، ما كان له أثر طيب صحح المفاهيم المغلوطة عن العرب والمسلمين.
وكذلك حققت قطر إنجازات غير مسبوقة في تفعيل دبلوماسية الوساطات لحل النزاعات الإقليمية. نجحت وساطات قطر، بكونها من الدول القلائل التي نسجت شبكة علاقات وثيقة مع شتى الخصوم في المنطقة. بين إيران وأمريكا، وبين أمريكا وطالبان، وفصائل دارفور المتصارعة في السودان، وبين الفرقاء المتناحرين في لبنان. كما تزود قطر قطاع غزة بدفعات شهرية لدفع الرواتب وتوفير الفيول للكهرباء. ما منح قطر قدرة التوسط لوقف عدوان إسرائيل.
كذلك تستضيف قطر في قاعدة العديد أكبر قاعدة جوية أميركية في المنطقة. وقادت إجلاء 70 ألف أميركي وأفغاني ومن جنسيات أجنبية وعربية بعد الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان قبل عامين. ما دفع الرئيس بايدن لتصنيف دولة قطر كحليف رئيسي من خارج حلف الناتو مطلع عام 2022. وتمثل سفارة قطر في كابول المصالح الأميركية، وتستضيف الدوحة جولات تفاوض بين أمريكا وطالبان.
نجحت مثابرة وساطة قطر بالتوصل لصفقة مقايضة سجناء أميركيين في طهران وسجناء إيرانيين في أمريكا والإفراج عن مليارات الدولارات المجمدة من أرصدة إيران في كوريا الجنوبية والعراق مؤخراً. وثقة الخصمين أمريكا وإيران بقطر وسيطاً ومشرفاً للتأكد ان مليارات إيران المفرج عنها تنفق على صفقات الغذاء والدواء والمعدات الطبية، وليس لأغراض تخالف العقوبات الأميركية. تلك النجاحات تُبقي استثنائية وتميز قطر.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
150
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
144
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
99
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6462
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3864
| 21 أكتوبر 2025