رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا ريب أن الشباب في كل أمة ووطن هم عماد النهضة المنشودة وأساس البناء المكين، والشباب المتوثب المتدفق بعطائه بل ودمه هم الأمل الباقي الذي ينشده شداة الحرية ليبزغ من جديد شعاع النور من خلف الظلام والسديم وباختصار فإن نصوص الإسلام ركزت على قيمة الشباب ودورهم أيما تركيز وقال (غوتة) إنما يتوقف مصير كل أمة على شبانها.
ولكننا ونحن نعيش اليوم هذا المخاض العسير والابتلاء الممحص بين الحكام والشعوب والذي نجح إلى حد كبير في ثورتي تونس ومصر ونقل العدوى الخيرة إلى بلدان أخرى بامتداد كاسح لابد لنا أن نذكر بأمور من البصائر التي أكد عليها الإسلام واعتبرها من عوامل النجاح المهمة في الجهاد المدني والجهاد المسلح على حد سواء لإسقاط كل الأقنعة الواهية التي كان يبدو أنها تكون ستارا حديديا أمام الشعوب يمنعها من الجرأة وتجاوز الخوف، ولعل المشكلة في حياتنا اليوم ليست عدم التقدم للحرية والكرامة فقد بدأ هذا المشوار وعلى صفيح ساخن ولكن المشكلة أيضا تكمن في ندرة أهل البصائر والحكماء الذين هم الملاذ الأكبر الواقي من بعض التهورات أو المؤامرات التي تحبط عمل الشباب وتسرق ثورات الشعوب وفي التاريخ أكثر من دليل على ذلك ومن هنا نؤكد على ضرورة اقتران حماسة الشباب بحكمة أهل التجارب من الشيوخ الذين حلبوا الدهر أشطره، أما كان الشاعر العربي معروف الرصافي ينبه إلى ذلك بقوله:
وهدى التجارب في الشيوخ وإنما
أمل البلاد يكون في شبانها
وإن السياسة الحكيمة في ذلك لتظهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود (إن الحرب خدعة) وقوله في في قصة الشاعر أبي عزة الجمحي الذي أراد خدعة الرسول فقاتل ضده مرة ثانية ونقض العهد (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وأمر بضرب عنقه، وهذا ما فهمه عمر رضي الله عنه (لست بالخب ولا الخب يخدعني).
ولعلنا نشير إلى بعض المعالم والأفكار التي تظل مساعدة للشباب في نهضتهم وثورتهم على الظلم والطغيان على نور وبصيرة.
أولاً: لابد من الاستناد إلى الإيمان العميق بصدق المطلب فهو الأول الأول والركن الركين الذي لا يخون وهو بمثابة الماء والهواء والغذاء والدواء بل هو الشفاء كله ومن طلب المزيد فليقرأ كتاب إذا هبت ريح الإيمان للعلامة أبي الحسن الندوي رحمه الله ليرى مصداق ذلك، إن هذا الإيمان هو الذي يجعل صاحبه مخلصا في أدائه وهو أمر سماوي من الحق تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..) "البينة".
وكذلك فهو بشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، وفي المثل العربي كن مخلصا في عملك تبلغ أقصى أملك ولا شك أن المرء يشعر بالراحة مع الإخلاص بينما تعتبر الحياة كلها بلا إخلاص نوعا من الوقاحة على حد ما عبر عنه امرسون بل كان أبلغ في التعبير منه الشاعر المعري:
ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا اكتسيت به فإنك عار
فلابد للثوار أن يحافظوا على هذه العملة النادرة الاخلاص كي ينجحوا ولا اعتبار لأي توجه ينصر أي سياسة أو شخص من دون الاخلاص إذ أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه.
ثانياً: الإرادة والحزم والعزم: فمن كانت له الإرادة كانت له القوة وسهلت عليه صعاب الأمور لأنه كما قال ابن عطاء الله السكندري في حكمه إن لله عبادا إذا ارادوا أراد أي أرادوا الهداية والثبات على الطاعة فأراد الله عونهم على ذلك، وكما قالوا من يصمم على الانتصار يقترب جدا من النصر وكما جاء في المثل العربي الإرادة نصف الطريق بل سر النجاح وأن التردد أكبر عقبة في طريقه وكما قال عباس محمود العقاد ما الإرادة إلا كالسيف يصدئه الإهمال ويشحذه الضرب والنزال، إذ بالإرادة تصنع المعجزات ولا مستحيل امام العزيمة كما قال جون هيود، ويجب أن تكون هذه الإرادة عاقلة ومقدرة للأمور لا عشوائية هوجائية لأن كل إرادة لا تتغلب على العاطفة تنهار وتفشل، كما قالوا وعندها يأخذ الحزم والعزم دورهما كما قال عمرو بن يحيى:
الحزم قبل العزم فاحزم واعزم
وإذا استبان لك الصواب فصمم
وعندها تصل المبتغى مع المتابعة الدؤوبة دون كلل أو ملل، كما قال صالح عبدالقدوس:
وما لحق الحاجات مثل مثابر
ولا عاق منها النجح مثل توان
ولعلنا نلحظ أنه بالإرادة الحازمة استطاع الثوار في تونس ومصر أن يتقدموا.
ثالثاً: الأمل والتفاؤل: فالإنسان البصير بطبيعة الحياة يدرك دائما أنه بعد الشتاء القارس لابد أن يأتي الربيع الجميل وان وراء الدجى فجرا يبتسم ويتبع الشاعر الطغرائي:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ويتفاءل على الدوام لأنه يدرك أنه إذا أشعل شمعة خير له من أن يلعن الظلام أن بل لا ينسى وهو في المدلهمات توجيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وان مع العسر يسرا).
فالتفاؤل من الله، أما التشاؤم فيولد من دماغ الإنسان كما يقول الحكيم، ولا يغيب عنه إرشاد أبي الفتح البستي عن قضاء الله في الأمور:
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يبدل الله من حال إلى حال
رابعاً: الثقة بالله والنفس.. فإن من يثق بوعود الله للعاملين رغم الابتلاء يقطع أشواطا كبيرة إلى مسافات الأهداف ووعد الله لا يتخلف وفي النهاية فإن العبد راجع إليه وهو لا يهتم بسخرية الآخرين، كما قال سفيان الثوري رحمه الله: من عرف نفسه لم يضره ما يقوله الناس فيه، بل يثق بنفسه المستقيمة، فالثقة بالنفس والتفاؤل معديان في الخير ويا نعم العدوى كما أشرنا بل ان الواثق بنفسه يقود الآخرين كما قال هوراس: إن الرجل العصامي محل إكبار الناس جميعا كما قال الطغرائي:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على أحد
وهو ما أكده شوقي:
كم واثق بالنفس نهاض بها
ساد البرية فيه وهو عصامي
خامساً: الشجاعة والتضحية: وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال لا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله، قال أرأيت إن قتلني، قال فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته قال: هو في النار فكيف بالذي يضحي لأجل وطنه وشعبه وحريتهما، بل انه إن ضحى ولم يمت شهيدا وسأل الله الشهادة بلغه ثوابها وهكذا يجب أن نكون:
مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها
تقضي البطولة ان نمد جسومنا
جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا
كما قال عمر أبو ريشة: فالشجاع المضحي لا يأبه بالموت حتى لو جاء في كفاح سلمي مدني فهو فرح بكلام ابن مسعود رضي الله عنه أشرف الموت موت الشهداء وان اول عناوين الفضيلة التضحية بالنفس، كما قال مدام دوستايل حيث إنه ثبت أنه لا يعيش الحب إلا بالتضحية كما أشار رابليه.
سادساً: التعاون والاتحاد: فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعون المظلوم فنحن جميعا نجذف في قارب واحد كما قال زينون وكما قال دايل كارنيجي: عندما يعمل الاخوة معا تتحول الجبال إلى ذهب وفي المثل العربي لا يعجز القوم ما تعاونوا على ان يكون هذا التعاون على البر والتقوى وحسب خطاب الاسلام الإنساني فالمؤمن المؤمن كالبنيان المرصوص، ومع أن ذا القرنين قد آتاه الله من كل شيء سببا لكنه طلب الاعانة ممن طلبوا منه أن يقيم السد.. وإنما يكون هذا التعاون بالاتحاد لا بالتفرق فالجماعة رحمة والفرقة عذاب كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وقد وعظ الحكيم أبناءه بالاتحاد وهو معن بن زائدة:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت أحادا
فيد الله مع الجماعة وكما قال حافظ إبراهيم:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وهذا ما فعله بنا الطغاة المستبدون الفرديون وعلى كل فالتعاون والاتحاد قانون الله ورسوله والطبيعة والواقع، فعسانا بمثل هذه المعالم نؤمل استمرار النجاح للشباب والثورة مع الأخذ بالحيطة والحذر.
في منتدى الدوحة 2025 وسط حضور كبير تجاوز ستة آلاف شخص وفي التنوع في الجلسات الحوارية التي ناقشت... اقرأ المزيد
129
| 17 ديسمبر 2025
تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
وصلت صباحا وكلي همة وتفكير من أين سوف أبدأ، فإذا بي أدخل المكتب وأجد مكتب زميلتي ليس على... اقرأ المزيد
159
| 17 ديسمبر 2025
قطر.. قصة وطن يتألّق في يومه الوطني
في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، تكون دولة قطر على موعدٍ مع ذاكرتها الوطنية، وتفتح صفحات... اقرأ المزيد
96
| 17 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
819
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
702
| 11 ديسمبر 2025