رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

محمد أحمد بكري

كاتب ومؤلف
حساب X ( تويتر): @e6n

مساحة إعلانية

مقالات

126

محمد أحمد بكري

ظلّي يسبقني

21 نوفمبر 2025 , 02:25ص

في الآونة الأخيرة، بدأت ألاحظ أن ظلّي صار يسبقني. لا أعلم متى بدأ ذلك، ولا متى توقفت أنا عن ملاحظته. كان في الماضي يتبعني بأدبٍ كطفلٍ وديعٍ يمسك بطرف ثوب أمه، أما الآن فهو يسير قبلي، بخطواتٍ واثقة يعرف أين أذهب أو يعرف إلى أين يجب أن أذهب.

أمشي في الطرقات فأراه أمامي يمد ذراعه إلى الأشياء قبل أن ألمسها، يجرب الحياة بدلاً عني. أحيانًا أشعر أنه أكثر صدقًا منّي، وأنه يعيش ما أهرب منه. وربما هو يسير قبلي لأنه يعرف الطريق، ولأنه سئم من انتظاري.

كنت أظن أن الظل مجرد أثر للضوء، شيئًا يتبع الجسد دون وعي، لكنني بدأت أشك أن الظل هو الوعي نفسه، وأننا نحن المجردون من المعنى. أصبح يسبقني إلى المرايا ويقف فيها بثبات ويحدق فيّ كمن يحاكمني على ما لم أفعله. هناك، في الزجاج، أرى ملامحي عليه أو ملامحه عليّ .. لا أعرف، لكن أحدنا صار مرهقًا من الآخر.

ربما ظلّي هو النسخة التي لم تتنازل. الإنسان الذي كان يمكن أن أكونه لو لم أساوم، لو لم أتعلم الانحناء كي أنجو. ظلّي ظل الفتى الذي حلم يومًا أن يكون نقيًّا كما خُلق، قبل أن يكتشف أن العالم لا يكافئ النقاء. أما أنا، فقد تعلمت البقاء، وهو تعلم الصدق. ومنذ ذلك الحين .. افترقنا.

في المساء، حين تطول الظلال وتمتد على الأرصفة كأسرارٍ سائلة، أراه يبتعد عني بهدوء. لا أسمع خطاه، لكنه يترك في صدري فراغًا يشبه الندم. أحيانًا أتمنى أن يتوقف وينتظرني، أن يلتفت إليّ، أن يقول لي: «ما زال هناك وقتٌ لتعود». لكنه لا يفعل .. يبدو أنه فقد إيمانه بي.

حين يسقط الضوء عليّ، أرى ظلّي واضحًا أمامي، وفي تلك اللحظة أعرف أن النور لا يكشفنا دائمًا، إنما يفضح المسافة بين ما نحن عليه وما كنا نستطيع أن نكونه.

أفكر أحيانًا أن الظل يخرج من القلب قبل الجسد، أنه ما يتبقى منّا حين نتعب من التبرير، ما يبقى صادقًا بعد أن نخون أنفسنا مراتٍ كثيرة. ربما لهذا صار يسبقني .. لأنه لم يعد يثق بي كقائدٍ لرحلتنا.

يُقلقني أن يحلّ يومٌ أسيرُ فيه فلا أُرى، أو أتحرك دون أن يتبعني أحد. فالإنسان الذي يغيب عنه ظله، يفقد نوره، ويزول أثره، وتُمحى ذكراه، ولا يعود له شاهد.

ومع ذلك، أواصل السير.

كلّما خطوت، مددت بصري أمامي أبحث عنه.

وأراه هناك .. دائمًا هناك .. يسبقني بخطوة واحدة، يلتفت إليّ ويقول بصمته:

«حين تصل .. ستكون قد أصبحت أنا».

كلٌّ منا يحمل ظلاً لا يستطيع الآخرون رؤيته، يسير هذا الظل أمامه ليذكره بما كان عليه، ويذكره أكثر بما كان بإمكانه أن يكونه.

فإن ابتعد ظلّك عنك .. فابحث في الطريق عن نفسك.

مساحة إعلانية