رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الأسرة أساس بناء المجتمعات، واللَّبِنة الأولى التي وضعها الله لاستمرار الحياة على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، ويعدُّ مفهوم الأسرة أو العائلة من الخصائص المميِّزة للإنسان دون سائر المخلوقات على هذا الكوكب الفسيح؛ فالأسرة الصغيرة هي نواة العائلة الكبيرة التي يتكون منها المجتمع بشكل عام، فالأفراد متفرقين لا يُمثِّلون نسيجًا متماسكًا؛ لذا جعل الله تعالى بناءَ العائلة هو الطريق الصحيح لتكاثر بني آدم في الحياة ومن أفضل النعم التي ينبغي الحفاظ عليها.
قال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [سورة النحل: 72].
وتقدير الأسرة وإعلاءُ مكانتها له أبعاد كثيرة:
•أولها: البُعد الديني:
فإذا صلَحَت الأسرة في علاقتها بالله والاهتمام بتعاليم الدين؛ انعكس ذلك على صلاح وانضباط أفرادها بلا شك. ويترتب على صلاح الأفراد صلاح المجتمع بأكمله؛ فالأسرة هي التي يتشرَّب منها أفرادها العقيدةَ والأخلاقَ، والأفكارَ والعادات والتقاليد. فالأصل في هدايتك إلى العقيدة الصحيحة بعد مشيئة الله تعالى هي أسرتك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟)) [متفق عليه].
فالأسرة كلما كانت من أهل الصلاح والتقوى والتدين كانت أصلًا يَفتخر به الفروع في كل زمان ومكان؛ لأنهم يأخذون بأيدي أبنائهم وبناتهم إلى الخير وطريق النجاة.
يقول الشاعر في وصف قوة الأسرة والعائلة والأخوة:
وما المرء إلَّا بإخوانه ** كما تقبض الكفُّ بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة ** ولا خير في الساعد الأجذم
ثانيًا: البُعد التعليمي:
في مراحل التعليم المختلفة نجد أهمية النسيج العائلي في حياة الأبناء خصوصًا في مرحلة التعليم والانتقال من مستوى لآخر؛ لذا يجب الحرص على بناء الأسرة على أسس ثابتة وأصول سليمة وقواعد ربانية منذ الصغر حتى تستمر معهم هذه الأصول والثوابت إذا اختلطوا بالمجتمع الخارجي في إطار الدراسة. فقاعدة الأسرة أساسها شرع الله وتعاليم الدين الحنيف كالرحمة والرفق والحب والتعاون واحترام الآخر كبيرًا كان أم صغيرًا؛ فبالرعاية والعناية والدفء التي يحظى بها الأبناء في كنف العائلة، وبالطاعة والبِرِّ اللذَيْن يقدمهما الأبناء للوالدين تستمر البيوت وتظل عامرةً مدى الحياة. كما أن الاهتمام بالعاطفة والهوايات والميول الشخصية للأبناء من أهم الدعائم التي تقدمها العائلة لأبنائها، فالجانب العاطفي في العائلة مهم جدًّا للشباب من الجنسين، ووجود أسرة داعمة لهم في الإخفاق قبل النجاح فربما تعرَّض أحد الأبناء لتعثُّر دراسي في بعض السنوات فيحتاج إلى دعم حتى يخرج من اليأس والإحباط ويواصل مسيرته بتفاؤل، وكذلك تشجيع العائلة لأبنائها والاحتفاء بهم في النجاح والثناء على جهودهم أمر يُشعرهم باستقرار عاطفي واتزان نفسي له عائد على حياتهم الشخصية وينعكس ذلك على صحتهم النفسية، فكلما كانت الأسرة تأخذ برأي الأبناء في أمور الأسرة وتحترم وجهات نظرهم يشعرهم هذا بتحمُّل المسئولية وأهمية رأيهم لدى الآباء، وهكذا تكون قد عزَّزت جانبًا شديد الأهمية من الجوانب الأساسية لاستقرارهم النفسي والسلوكي، ويُعدُّ من احتياجات أي فرد طبيعي، وهو جانب التقدير والاحترام والدعم والمساندة.
•ثالثًا: البُعد الوظيفي:
فالأسرة التي تحافظ على الثوابت الإسلامية ثم العادات والتقاليد الإيجابية بشكل أساسي في حياتها، ينعكس ذلك على مستقبل أبنائها الوظيفي والمهني؛ فكل أصل طيب يُثمر بإذن الله فرعًا طيبًا يحمل الرسالة التي تعلَّمها وتربَّى وترعرع عليها في كنف عائلته المباركة، فكلما كان الأصل يبحث عن المعالي ويتجنب الرذائل كان هذا مدعاةً للافتخار بين أبنائه، فيسيرون على نهج الأسلاف من عُلوٍّ إلى ارتقاء، فيكون أصلهم الطيب سجِلًّا مشرِّفًا يفتح لهم مجالات العمل المهمة والمؤثرة، ويجعلهم محط اختيار للمناصب المرموقة. وكل ذلك استنادًا لتاريخهم العائلي الطيب.
•رابعًا: البُعد الاجتماعي:
فالأسرة ذات المكانة المرموقة تدعم أبناءها في محيطهم المجتمعي، بمعنى أن المستوى الاجتماعي لهم في الثقافة والمعرفة والعلم، والمعارف والجيران والأصهار يتكافأ مع طبقتهم، فتكون علاقتهم الاجتماعية بالآخرين متوافقة مع تربيتهم وتعليمهم ومكانة هذه الأسرة بين غيرها من الأُسَر؛ فهذا يدعمك في اختيار أصدقائك وزملائك، وكذلك يدعمك في اختيار المصاهرة والنسب الطيب؛ فالأسرة الطيبة المباركة تُعلِي مكانة أبنائها وتكون مصدرَ فخر واعتزاز لهم على المستوى الاجتماعي؛ لذا يجب على الأبناء المحافظة على تاريخ عائلتهم ومكانتها والاستمرار في الارتقاء باسم الدين الإسلامي السمح، ثم المحافظة على مابناه الآباء والأجداد بشكل يتواكب مع العصر الحديث.
•خامسًا: البُعد الإنساني:
فتقدير الأسرة لأفرادها، له بُعد إنساني عميق ومهم، فمفهوم التقدير من المفاهيم المهمة بين أفراد العائلة لبعضهم بعضًا وحبهم لدينهم ووطنهم وأمتهم، ويعدُّ من الأمور التي تساعد في زيادة مقدار الحب والامتنان بينهم، حيث تساهم الطريقة الجيدة في الحوار، والتقدير أثناء النقاش، والحديث في أي موضوع، واستعمال كلمات الشكر والثناء، والتعبير عن التقدير في اللقاء كل هذه الأمور من أشكال التقدير التي تسهم في زيادة سعادة الأسر وتماسكها والارتباط بين أفرادها مهما بعُدت بينهم المسافات، ولا شك أن عصرنا الحالي فَقَد الكثير من الترابط الأسري بالشكل الذي كان عليه في الماضي، وذلك نظرًا لتعدُّد وسائل التكنولوجيا الحديثة كالإنترنت والانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت لكل فرد من أفراد الأسرة عالمه الذي يعيش فيه، وأثرت بشكل واضح على الانتماء والترابط الأسري عند بعض الأبناء والبنات.
•فلا بد من محاولة الرجوع للجو العائلي كما كان في السابق، حتى ولو بشكل أقل من السابق، فاللقاء الأسري اليومي على مائدة الطعام، وكذلك مجلس الأسرة في نهاية اليوم واللقاء الأسبوعي له أثر عميق في نفوس النشء الصغير، فالحوار الهادف معهم يُثري الفكر والثقافة ويزيد الثقة بالنفس لديهم، والاستماع إليهم يزيد من الترابط والألفة بين أفراد الأسرة، فالمحافظة على ثوابت الدين الإسلامي، ونقل تجارب الكبار للأجيال الشابة يحميهم من الوقوع في مشاكل كثيرة أثناء مشوار عمرهم بإذن الله.
فالترابط الأسري يُسهم في نشأة الجيل الحالي بشكل متوازن ومتحمِّل للمسؤولية بشكل كبير تجاه أنفسهم وأهلهم ودينهم ووطنهم وأمتهم بل للإنسانية جمعاء.
• دعاء:
نسأل الله تعالى أن يحفظنا ويحفظكم، وأن يديم علينا وعليكم الترابط بالطيب والخير والمعروف فيما بيننا، وأن يوفقنا جميعًا للتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين، والسير على نهجهم الطيب المبارك، وأن يجعلنا خير خلف لخير سلف، وأن يبارك في الأبناء والأحفاد والأجيال القادمة.. اللهم آمين.
burashid282@hotmail.com
الســـودان القضيــة التي ماتت
عام 2025 يوشك على الانتهاء بعد شهرين من الآن وأزمة السودان التي تفجرت منذ 15 أبريل 2023 تتفاقم... اقرأ المزيد
177
| 02 نوفمبر 2025
الذكاء الاصطناعي.. من يقرر ملامح الحقيقة القادمة؟
لم يعد سؤال الهيمنة في عصر الذكاء الاصطناعي مجرّد منافسة تقنية على أدوات السيطرة، بل تحوّلًا بنيويًا في... اقرأ المزيد
138
| 02 نوفمبر 2025
زمن الشهرة الزائفة
لم يعد التغيير الذي أصاب النفوس البشرية خفيًّا أو محدودًا، بل أصبح واضحًا لكل من يتأمل طبيعة العلاقات... اقرأ المزيد
234
| 02 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6693
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2754
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2391
| 30 أكتوبر 2025