رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

831

سعدية مفرح

قوة الاعتذار: كيف تُصلح ما كُسر بكلمتين؟

24 فبراير 2025 , 02:00ص

الاعتذار ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو جسرٌ ممتد بين القلوب، يعيد ما انقطع من روابط المودة، ويجبر ما تكسر من مشاعر. إنه ذلك الفعل الإنساني العميق الذي يتطلب شجاعة داخلية ووعياً ناضجاً بالذات والآخر. ليس كل من أخطأ قادرًا على الاعتذار، فالأمر ليس مجرد نطق بكلمات عابرة، بل هو عملية صادقة تستلزم إدراك الخطأ، والاعتراف به، وتحمُّل المسؤولية، ثم محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه.

في مجتمعاتنا، يعاني الاعتذار أحيانًا من كونه مرتبطًا بالضعف، وكأن الإقرار بالخطأ يُنقص من قدر الإنسان أو يهز من مكانته. لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فالاعتذار فعلُ قوةٍ لا ضعف، وهو دليل على شخصية متصالحة مع نفسها، قادرة على مواجهة أخطائها بدل الهروب منها. إن القدرة على الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه لا تنبع إلا من نفوسٍ كريمةٍ تدرك أن الكمال ليس من صفات البشر، وأن الأهم من الوقوع في الخطأ هو القدرة على تجاوزه بكرامة وإنسانية.

الاعتذار ليس مجرد كلمات تقال على استحياء، بل هو إحساس عميق بالمسؤولية الأخلاقية. عندما يعتذر المرء، فهو يعترف بأنه قد تسبب بأذى، سواء بقصد أو من دون قصد، ويعبر عن رغبته الحقيقية في إصلاح ما أفسده، أو على الأقل تخفيف الأثر الذي خلّفه. والأهم من ذلك أن الاعتذار لا يكون صادقًا إلا إذا كان مقرونًا بتغيير حقيقي في السلوك، وإلا أصبح مجرد محاولة باردة لإراحة الضمير من دون نية فعلية لإصلاح الخطأ.

لكن، على الجانب الآخر، يجب أن تكون ثقافة الاعتذار متجذرة ليس فقط فيمن يخطئ، بل أيضًا فيمن يستقبل الاعتذار. قبول الاعتذار بقلوبٍ متسامحة يعكس وعياً عميقاً بالإنسانية، واعترافًا بأن كل البشر يخطئون. إن من يرفض الاعتذار أو يصرّ على معاقبة المخطئ حتى بعد ندمه، إنما يغلق باب التصالح ويجعل من الأخطاء جروحًا مفتوحة لا تلتئم. لذا، فإن التسامح يجب أن يكون جزءًا من معادلة الاعتذار، لأن الغاية النهائية منه ليست فقط تصحيح الخطأ، بل استعادة الثقة والعلاقة الإنسانية التي كادت أن تضيع.

الاعتذار فنٌ ومهارة، وهو ليس مجرد رد فعل على الخطأ، بل أسلوب حياة يعكس رقي الإنسان. الشخص الذي يعتذر بسهولة وصدق، لا يفعل ذلك لأنه ضعيف، بل لأنه يقدّر قيمة العلاقات الإنسانية أكثر من كبريائه الشخصي. إنه يفهم أن الاعتذار ليس تنازلاً بل تحررًا من ثقل الذنب، وأن الكلمات الصادقة التي تُقال في لحظة ندم قد تكون كفيلة بإنقاذ علاقةٍ أو إصلاح جرحٍ عميق. لكن في المقابل، هناك اعتذارات زائفة تُقال بلا إحساس، مجرد عبارات تُردد لمجرد إسقاط الواجب، وكأنها كلمات تُستخدم لتبرئة النفس لا لمداواة الآخر. الاعتذار الحقيقي لا يكون مجرد جملة روتينية مثل “أنا آسف” تُقال بفتور، بل هو فعل ينبع من الداخل، يتجلى في نبرة الصوت، ونظرة العين، والجهد المبذول لتصحيح الخطأ.

* والاعتذار ليس حكرًا على الأفراد فقط، بل هو ثقافة يجب أن تتبناها المجتمعات والمؤسسات والدول. الاعتذار الجماعي عن أخطاء الماضي هو خطوة نحو مستقبل أكثر وعياً وعدالة. نرى في التاريخ كيف أن بعض الدول العظيمة لم تخجل من الاعتذار عن أخطاء ارتكبتها بحق الشعوب الأخرى، بل اعتبرت ذلك جزءًا من مسؤوليتها الأخلاقية. والمجتمع الذي يعترف بأخطائه، هو مجتمع ناضج يتعلم منها ولا يكررها.

كم من علاقات انتهت لأن أحد الطرفين لم يجد الشجاعة ليقول “أنا آسف”؟ وكم من صداقات ضاعت لأن الغرور حال دون الاعتذار؟ وكم من قلوب ظلت مثقلة بالجراح لأن الاعتذار لم يكن جزءًا من المعادلة؟ إن الاعتذار ليس فقط وسيلة لتخفيف الندم، بل هو مفتاح لاستمرار العلاقات الإنسانية ونضوجها. عندما نعتذر، نحن لا نقوم بفعل لصالح الآخر فقط، بل لصالح أنفسنا أيضًا. نحن نتحرر من عبء الذنب، ونمنح قلوبنا فرصة للسلام. فالحياة قصيرة، والمواقف العالقة التي لم يتم إصلاحها تتحول مع الزمن إلى جدرانٍ عازلة تمنعنا من العيش بصفاء. الاعتذار هو الجسر الذي يجعلنا نعبر إلى الجانب الآخر من العلاقة بأمان، دون أن نخسر أنفسنا أو من نحب.

* إن ثقافة الاعتذار هي انعكاس لتحضر المجتمع ورقيه، وهي دليل على أن الإنسانية ما زالت نابضة في قلوبنا، وأننا قادرون على التعلم من أخطائنا والتطور. فلتكن كلمات الاعتذار الصادقة جزءًا من حياتنا، ولنتعلم كيف نقولها ونستقبلها بقلوب مفتوحة، لأننا في النهاية بشر، نخطئ ونصيب، لكن ما يجعلنا أكثر إنسانية هو قدرتنا على التراجع والتصحيح، والعودة دومًا إلى نقطة النقاء الأولى.

مساحة إعلانية