رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في زيارة إلى سريلانكا برفقة مؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية، تم افتتاح المرحلة الأولى من مشروع مدينة الشيخ جاسم في محافظة "منار" الإسلامية في سريلانكا، وبلغ عدد الوحدات السكنية في المرحلة الأولى 446 وحدة سكنية، وتم توزيعها على 6 قرى منها قرية نورة بنت محمد محمود وتضم 100 وحدة سكنية عن طريق مؤسسة الشيخ ثاني بن عبدالله للخدمات الإنسانية "راف"، و150 وحدة سكنية عن طريق منظمة الأمم المتحدة للإسكان، و17 وحدة سكنية عن طريق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الدولة، وذلك بالتعاون مع سفارة قطر في العاصمة السريلانكية كولومبو، ونصيب الأسد قامت به مؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية حيث تبرعت بـ 179 وحدة سكنية بمجموع يصل لـ 446 وحدة سكنية هي نتاج المرحلة الأولى من مشروع مدينة الشيخ جاسم السكنية النموذجية في سريلانكا.
كان السفر يوم الخميس الموافق الثالث عشر من الشهر الجاري، واليوم الذي يليه الجمعة كان موعد الافتتاح حيث قامت مؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية باستئجار هليكوبتر لتقوم بنقلنا إلى محافظة "منار" ذات الغالبية المسلمة، والتي قام نمور التاميل بتشريد أهلها وطردهم من بيوتهم ومزارعهم وممتلكاتهم، ولم يستطيعوا أن يأخذوا معهم أبسط الأمور كالملابس الخاصة بهم، وأُذكِّر حتى يعي القارئ الكريم حجم الظلم والذل الذي وقع بإخواننا المسلمين هناك أنها تمّت في عام 1990م حتى عام 2009م، أي ما يقارب العشرين عاما وهم يتوسدون الأرض ويلتحفون السماء ويغتسلون بماء المطر، ولم تقف معهم لا حكومات ولا منظمات إلا ما ندر، وبعد أن تولى الرئاسة الرئيس الحالي، حاول القضاء على المتمردين، وإدخال الأمن والأمان إلى كل فئات الشعب السريلانكي بكل أطيافه، وعند عودة معظم اللاجئين لم يجدوا لهم بيوتا أو ممتلكات أو أي شيء يمكن أن يدل على مسكن أو مسجد أو أي شيء آخر، بل وصل الأمر إلى طمس معظم المعالم للقرى والمناطق، فكانت الوقفة العظيمة للجمعيات الخيرية القطرية وعلى رأسها مؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية، التي قامت بأخذ المبادرة والعمل على إعادة المسلمين إلى ديارهم ومناطقهم، والمساهمة في أن تدب الحياة مرة أخرى في نفوس أهل المناطق والقرى، ولتكون رسالة لمن تخلّف للعودة إلى دياره بكل أريحية ويسر وسهولة، وقد كان لمؤسسة "راف" دور ومساهمة فعالة في البناء وإعادة الإعمار أيضا، وقد كانت جمعية الشيخ عيد حاضرة في محاولة منها لدراسة الأوضاع لتحديد نوعية المشاركة في المستقبل، وكذلك مؤسسة الأصمخ للأعمال الخيرية، وكان هناك حضور لمنظمة الدعوة الإسلامية، وجميعها تصب في المشاركة والاحتفال بافتتاح المرحلة الأولى، والتي امتزجت فيها الدموع بالضحك عند كل مشروع على حدة، فمن افتتاح للوحدات السكنية للمساجد والمدارس والمراكز الصحية، وكان الاستقبال عند كل مشروع بالورود كما هي العادة السريلانكية في كل فعالية للترحيب بالضيوف، والأجمل أن المشروع كما أوضح السيد سعيد مذكر الهاجري الرئيس التنفيذي لمؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية، يأتي انطلاقا من توجهات القيادة الرشيدة وما أخذته دولة قطر على عاتقها من مساعدة ومساندة الشعوب التي عانت من ويلات الحروب والصراعات، التي ألحقت الضرر بالجميع في المناطق المنكوبة، وهذا ما تم العمل عليه وذلك بالتنسيق مع الحكومة السريلانكية في محاولة من المؤسسة في إعادة إسكان ما يقارب عشرين ألف نازح سريلانكي شردتهم الحروب من مناطقهم في محافظة "منار"، كما أكّد على أن التعاون الذي حصل بين مؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية والجمعيات الأخرى، انطلاقة نحو ترسيخ قواعد العمل الخيري المشترك بين مؤسسات المجتمع المدني وبين الحكومات والجهات الرسمية بهدف تحقيق التنمية المستدامة للشعوب، خاصة تلك المناطق التي تحتاج إلى مد يد العون إليها.
والجميل الذي أفرحني ما وجدته من فرح وسرور على ملامح أهل محافظة "منار" حصول العائلة على مسكن خاص بها ومزرعة بمساحة 2500م، حتى تستغل كل عائلة هذه المساحة للزراعة أو الاستثمار، ويكون لها مصدر دخل ثابت تستطيع من خلاله العيش والاعتماد على نفسها دون مد اليد للآخرين، وقد أوضح الهاجري أن هذا المشروع والمساحة التي تم طلبها من الحكومة للعوائل المسلمة، هي في الأساس المشروع الرئيسي، لأنه وكما أوضح أن رؤية المؤسسة تتمثل في (التمكين والبناء والتنمية) حتى تتحقق الحياة الكريمة نحو مستقبل أفضل، فمن خلال هذه الرؤية أستطيع أن أقول بكل ثقة هذا هو المطلوب من الجمعيات الخيرية القطرية، فليس المطلوب أن تقدم مأوى دون أن تحاول أن تضمن مصدر دخل ثابت؛ حتى تستفيد العوائل من المِنح التي حصلت عليها، وإن لم تتوافر فمن المؤكد أن هناك من المتربصين بهم من يحاولون شراء منازلهم ومزارعهم بأبخس الأثمان، وبالتالي تذهب جميع هذه الأعمال هباء منثورا، ولكن عند العمل والمحاولة على إيجاد فرص السكن مع فرص ربطها بمصدر دخل ثابت سيجعل كل عائلة استفادت من هذه المشاريع الخيرية تتمسك بما حصلت عليه، فقد أوضح السيد الهاجري أن التفاوض تم مع الحكومة السريلانكية بأن يتم تخصيص 2500م لكل عائلة، وأن تستفيد من الأرض بزراعتها أو استثمارها، كما تم التوصل مع الحكومة السريلانكية أيضا إلى أن تقوم ببناء المدارس والمراكز الصحية والبنية التحتية، وتتحمل المؤسسة وبعض الجمعيات الأخرى بناء الوحدات السكنية، وهذا ما تم بالفعل تنفيذه، كما أن التوزيع تم ترتيبه بين الحكومة والمؤسسة، وقامت الحكومة بتسجيلها بأسماء المستفيدين وتسلمت المؤسسة صور شهادات التسجيل حفاظا على حقوق المستفيدين.
انتهت المرحلة الأولى بتسليم 446 وحدة سكنية لمستحقيها، وتم التوقيع بعد حفل الافتتاح بيوم على المرحلة الثانية والتي ستشمل بإذن الله 554 وحدة سكنية، والعدد الإجمالي سيتم تنفيذه على أربع مراحل ليصل عدد الوحدات السكنية في نهاية المشروع إلى 2000 وحدة سكنية، وقد لمس أعضاء الوفد المشارك فرحة الشعب السريلانكي، وكما قال لي خطيب صلاة الجمعة بعد الافتتاح: أشكر قطر دولة وحكومة وشعبا ولا ننسى الدور المهم للجمعيات الخيرية القطرية التي أصبحت مضربا للمثل فيما تقدمه وتعمل عليه، وأريد أن أقول لك إن كل وحدة سكنية بالنسبة لنا أهم من بناء المساجد والخدمات، لأن من تتوافر لهم المساكن يستطيعون الصلاة في أي مكان، كما أن المدارس والمراكز الصحية تأتي في المرتبة الثانية حتى يتعلم أبناؤنا وبناتنا ويتسلحوا بالعلم والعمل، ويكون لهم دور مثل السيد إرشاد بدرالدين.
والسيد إرشاد بدرالدين هو وزير التجارة والصناعة في الحكومة السريلانكية، وهو أحد أبناء المنطقة الذين تم طردهم منها، ولكنه بالعلم والعمل أصبح عضوا في مجلس البرلمان ووزيرا للتجارة والصناعة، وقد كان في استقبالنا منذ اللحظة الأولى، وملازما لنا في جميع تحركاتنا حتى توديعنا مرة أخرى في المطار، وكان نشيطا وحيويا لدرجة أنني أشك أنه لم ينم منذ وصلنا حتى عودتنا إلا ساعات معدودة، وقد شاهدت سعادة الوزير ودموعه تنهمر عند افتتاح بعض المشاريع في ذلك اليوم.
كلما أحاول أن أنهي المقال أتذكر بعض الصور المؤثرة والتي أُحب أن أذكرها جميعا، لكن المجال لا يتسع، وسوف أسرد هنا قصة للعبرة، فعند حفل الافتتاح ألقى كل من السيد إرشاد بدرالدين وزير التجارة والصناعة كلمة ثم تحدث السيد سعيد الهاجري الرئيس التنفيذي لمؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية، ثم الدكتور عايض القحطاني مدير عام مؤسسة (راف)، ولا تسمع إلا التكبير والتصفيق من الحضور، وشد انتباهي إحدى السيدات التي لم أستطع رؤية وجهها لتغطيتها بيديها من شدة البكاء، وعند سؤالي للشيخ السريلانكي، الذي يجيد اللغة العربية عن سبب بكائها وقد تبادر إلى ذهني أنها تريد مساعدة ولم يسمح لها الحرس بالاقتراب نحونا، قلت له انظر ما بها، وعند عودته أخبرني أنها لا تريد شيئا بل أخذت تدعو لكم بالخير والبركة وأن يحفظ الله قطر وأهلها من كل سوء، وهي تبكي فرحة بأنها رأت بأم عينيها إخوانها العرب والمسلمين ماثلين أمامها، وهي التي اعتقدت أنهم نسوهم في سريلانكا!! فكم كانت فرحتي بهذه الكلمات التي سمعتها وحزني أيضا لما كانت تشعر به!! لدرجة أنني كنت أتساءل مع نفسي هل كانت تشعر بهذه المشاعر منذ سنة؟ أم أكثر من ذلك بقليل؟ أم منذ تهجيرهم وتشريدهم عام 1990!!
قصة أخرى وأخيرة، فعند الانتهاء من الاحتفال التقيت أحد الإخوة السريلانكيين، ويتحدث العربية بطلاقة، وقد زار دول الخليج كثيرا، وقال بما معناه أُحب أن أشكر دولة قطر ومؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية على ما قاموا به وسيقومون به لاحقا، ويكفينا شرفا أن تكون المدينة باسم عربي هو "مدينة الشيخ جاسم" فقد فرحنا وبكينا كثيرا بهذا الاسم العربي على إحدى مناطقنا السريلانكية، والتي تم تغيير أسماء كثير من مناطقنا بأسماء لا صلة لنا بها، أسماء مخالفة لديننا ومعتقداتنا، واليوم بعد أن تم إطلاق اسم الشيخ جاسم عليها، تم نسف جميع الأسماء السابقة ويبقى اسم مدينة جاسم محليا ورسميا من الجهات الحكومية، وهو ما يؤكد هويتنا الإسلامية بإطلاق الأسماء العربية، وفعلا فترديد اسم الشيخ جاسم كثيرا بلغتهم وفي خطاباتهم سوف يعمل على ترسيخ الاسم والمعتقد والدين أيضا.
الأهم من ذلك أن هذه الأعمال الخيرية عندما تكون في الدول التي تستحق وفيها من الإخوة والأخوات الذين يشاركوننا الدين والإنسانية، تكون ذات وقع في نفوس المستضعفين فيدعون من قلوب نظيفة بأن يحرس الله دولة قطر قيادة وحكومة وشعبا من كل سوء ومكروه... ونحن نُردد معهم آمين، فشكرا لمؤسسة جاسم وحمد بن جاسم الخيرية على هذه المشاريع الضخمة والكبيرة والمُختارة بعناية ودراسة؛ حتى يكون نفعها لهم ولمن بعدهم إن شاء الله، والشكر موصول لمؤسسة (راف) ولجميع الجمعيات الخيرية لما تقوم به من مشاريع خيرية لا تملك إلا أن تفتخر بها وبمن وراءها والعامل عليها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6207
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3762
| 21 أكتوبر 2025
