رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. عبد الله النعمة

مساحة إعلانية

مقالات

99

د. عبد الله النعمة

حارس الذاكرة: حين يصبح «المعجم» مشروع تنمية وأمن قومي

24 ديسمبر 2025 , 06:11ص

في زحمة مشاريع البنية التحتية العملاقة، وبينما نرفع رؤوسنا لنطالع ناطحات السحاب التي تعانق الغيم، وبينما تضج الأخبار بصفقات الغاز والطاقة، مرّ علينا حدث جلل بهدوء الواثقين، حدث قد لا يُرى بالعين المجردة كالجسر أو الملعب، لكنه في ميزان الحضارات أثقل وأبقى.

أتحدث عن اكتمال «معجم الدوحة التاريخي للغة العربية».

قد يتساءل البعض باستغراب: «معجم؟ هل نحن بحاجة لكتاب جديد يشرح معاني الكلمات؟ وهل هذا وقت المعاجم ونحن نعيش عصر الذكاء الاصطناعي؟». وهنا تكمن الإشكالية الكبرى في فهمنا لـ «التنمية». نحن نظن أن التنمية هي «الحجر» و»التقنية» فقط، ونسينا أن التنمية الحقيقية تبدأ من «الإنسان»، والإنسان لا يقوم إلا بـ «لسان» و»هوية».

هذا المشروع ليس مجرد قاموس. إنه «أرشيف الأمة» وذاكرتها الحية. هو الذي يخبرنا كيف تطور عقلنا العربي عبر عشرين قرناً. هو الذي يمسك بيد الكلمة منذ ولادتها في الصحراء، ويتبع رحلتها وهي تبني الحضارة في بغداد والأندلس، وصولاً إلى عصرنا هذا. وفي زمن نشكو فيه -بمرارة- من «اللسان المكسر» لأبنائنا، ومن طغيان اللغة الإنجليزية في مدارسنا وجامعاتنا حتى كدنا نتحول إلى «مسخ» ثقافي لا لون له؛ يأتي هذا المشروع كـ «وتد» يثبت الخيمة قبل أن تقتلعها رياح العولمة.

لقد كتبنا سابقاً ونزفنا ألماً على جيل يدرس العلوم والطب والهندسة بلسان غيره، معتقداً أن «العربية» لغة شعر وأدب فقط، وليست لغة علم وحضارة. وكنا نسمع الحجة المكررة: «العربية لا تواكب». اليوم، يأتي هذا المعجم التاريخي ليرد بالبرهان الساطع: هذه لغة وسعت علوم الأولين والآخرين، لغة كانت وعاءً لـ «الجبر» و»الفلك» و»الطب» حين كان العالم يغرق في الظلام. فالعيب ليس فيها، العيب فينا نحن الذين هجرناها.

إن أهمية هذا المشروع تتجاوز «اللغة» لتصب في صلب «منظومة القيم» التي نخشى عليها من الاندثار. كيف سنفهم معنى «المروءة» إذا فقدنا جذر الكلمة؟ وكيف سنشرح لأحفادنا معنى «الفزعة» و»النجدة» و»الإيثار» إذا انقطع الحبل السري الذي يربطهم بتاريخ هذه المفردات؟ اللغة هي «وعاء القيم». إذا انكسر الوعاء، انسكبت القيم وضاعت. والمجتمع الذي يفقد لغته، يفقد بالضرورة منظومته الأخلاقية، ويصبح مجرد «سوق» استهلاكي بلا روح، يستورد قيمه كما يستورد بضائعه.

إن الأمم الحية لا تنهض بتقليد غيرها. انظروا للصين، لليابان، لكوريا.. هل تخلوا عن لغتهم وتاريخهم ليصعدوا للقمر أو ليصنعوا الرقائق الإلكترونية؟ كلا. لقد جعلوا لغتهم «أساس» التنمية، وبنوا نهضتهم على جذورهم الخاصة. فما من أمة هجرت تاريخها وتنكرت للسانها إلا وأصبحت تابعة، ذليلة، ومسوخاً مشوهة لا هي بقيت على أصالتها، ولا هي لحقت بركب غيرها.

لذلك، فإن الاحتفاء بهذا الإنجاز المعرفي الأصيل هو واجب وطني. نحن بحاجة لأن نكثر من هذه المشاريع «النوعية» التي تستثمر في «العقل» و»الهوية». نحتاج أن نقول «شكراً» بحجم السماء لكل من سهر وبذل ودعم هذا الصرح العظيم. فهذا هو «الاستثمار» الذي لا يخسر أبداً.

هذا المعجم رسالة مبطنة لكل مسؤول عن التعليم والتخطيط: «الأرضية صلبة، والتراث عظيم، واللغة قادرة.. فلا عذر لكم في التغريب». عودوا إلى لسانكم، تعود لكم عزتكم. فالمستقبل لا يبنيه من يقطع جذوره، بل يبنيه من يضرب بها في أعماق الأرض، ليطاول برأسه عنان السماء. هنيئاً لنا بـ «دوحة» تحرس «الضاد»، وهنيئاً للعربية بحراسها.

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ     فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

مساحة إعلانية