رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تخيل نفسك تقود سيارتك في أحد شوارع المنامة أو الكويت مثلا، على يمينك ويسارك، ترتفع أبراج زجاجية تناطح السحاب، ولوحات إعلانية تصرخ بأحدث الصيحات العالمية. وفجأة، عبر أثير الراديو، يتسلل إلى مسامعك لحنٌ قديم، وصوتٌ دافئ تعرفه جيدًا. قد يكون صوت محمد زويّد يروي قصة، أو عوض دوخي أو ناظم الغزالي يصف شعورًا، أو نهمة بحّار تروي حنين الموج. في تلك اللحظة، يحدث شيءٌ يشبه السحر. يذوب زجاج الأبراج للحظة، ويخفت ضجيج المدينة، وتشعر بارتباط عميق، بلمسة حنان تداعب روحك. فتسأل نفسك: ما سر هذه القوة؟ لماذا أغنية بسيطة، بآلاتها القليلة وكلماتها الصادقة، قادرة على أن تهز وجداني أكثر من مائة أغنية صاخبة سمعتها هذا الأسبوع ونسيتها بالفعل؟ هنا يظهر معنى الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية بوصفه رابطًا روحيًا ولغويًا وحسيًا يتجاوز الزمن. الجواب يكمن في الفرق الجوهري بين «الجمال الأصيل» الذي هو مرآة لأرواحنا، و»الضجيج العابر» الذي هو مجرد صدى فارغ لصيحات الآخرين. إن قصة خلود أغنية شعبية وموت ألف صيحة عابرة، هي قصة الصدق في مواجهة الزيف، وقصة الثقافة في مواجهة الاستهلاك. إن الفن الذي يبقى ويخلد، سواء كان أغنية أو قصيدة أو حتى تصميما عمرانيا كـ «سوق واقف» و»سوق القيصرية»، يمتلك مكونات سرية مشتركة. إنه ليس مجرد فن جميل، بل هو فن صادق: 1. إنه يتحدث لغة الروح: الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية ينبع من بيئتنا نحن. حين يغني فنان خليجي عن «الدلة» و»الهيل»، أو «البحر» و»عين المها»، فهو لا يستخدم مجرد كلمات، بل يستدعي مفاتيح تفتح خزائن الذاكرة والشعور المشترك في داخل كل واحد منا. هذه المفردات مشبعة برائحة أرضنا وحكايات أجدادنا. هكذا يتحوّل الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية إلى تجربة وجدانية لا يمكن استنساخها. 2. إنه يجسد الصدق الفني: الكثير من أعمالنا الخالدة وُلدت من تجارب حقيقية. قصائد كُتبت في مجالس حقيقية، وأغانٍ لحنت على عود يروي قصة صاحبه. هذا الصدق يخترق دفاعاتنا ويتسلل مباشرة إلى القلب، لأنه يفتقر إلى التصنع وبرودة الآلات التي تميز الكثير من الإنتاج الفني التجاري اليوم. 3. إنه صناعة جماعية: فالفن الأصيل غالبًا ما يكون نتاج «تشكيلة» متكاملة. الشاعر يلتقط همس المجتمع، والملحن يترجمه إلى نغم، والمغني يمنحه صوته، والجماعة (أنتَ وأنتِ) تحتضنه وتحفظه، فيتحول الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية من عمل فردي إلى ملكية جماعية وجزء من الوجدان العام. في المقابل، تأتي «الصيحات العابرة». قد تكون مبهرة في شكلها، جذابة في إيقاعها، فاقعة في ألوانها.. لكنها غالبًا ما تكون كنخلة بلاستيكية طويلة جميلة، لا روح فيها ولا عبق. إنها تتحدث لغة بصرية وسمعية لا جذور لها في تربتنا. قد نستمتع بها كما نستمتع بوجبة سريعة، لكنها لا تغذي الروح ولا تترك أثرًا. والأهم، أنها مصممة لهدف واحد: أن تُستهلك بسرعة، وتُنسى بسرعة، لتفسح المجال للصيحة التي تليها. وهنا يكمن الخطر التنموي. حين يغرق مجتمع ما في استهلاك الجمال المستورد فقط، فإنه يفقد تدريجيًا «حاسة الذوق» الخاصة به، ثم يفقد «القدرة على الإنتاج» الإبداعي الأصيل. وهذه حالة من الفقر الثقافي، قد تتزامن مع الثراء المادي، ولكنها تترك الأرواح جائعة وفارغة. إن تمسكنا بالفن والجمال النابع من ثقافتنا ليس مجرد حنين للماضي، بل هو ضرورة تنموية للمستقبل: فهو مرساة لهويتنا في عالم معولم يسعى لتنميط كل شيء. وهو غذاء لأرواحنا ويقلل القلق في وجداننا. وهو وقود لإبداعنا فهو “المكتبة» والغيمة الماطرة التي يجب أن ننهل منها لنستلهم أفكارًا جديدة لمستقبلنا. وأخيرا لنكن صانعي جمالنا، فهذه رسالة بأن ثقافتنا ولّادة وقادرة على إنتاج جمال خالد. ودعوة لك، أنتَ وأنتِ، ألا تكتفوا بدور المستهلك السلبي للضجيج العابر. ابحثوا عن الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية، استمعوا إليه، زوروا أماكنه، تحدثوا عنه. لا كهروب إلى الماضي، بل كزادٍ نستقوي به لبناء مستقبلٍ لا يكون مجرد نسخة باهتة من عوالم أخرى، بل يكون تعبيرًا صادقًا وجميلًا عن أرواحنا نحن.
276
| 10 ديسمبر 2025
كم مرة كنت في اجتماع، وقدم لك أحدهم «الوصفة السحرية» للنجاح؟ تأتي هذه الوصفة عادةً بغلاف لامع، ويطلقون عليها اسم: «أفضل الممارسات» (Best Practices). تُقدَّم لنا وكأنها آخر ما توصلت إليه البشرية، الحل النهائي الذي لا يأتيه الباطل، وعلينا فقط أن نطبقها «نسخ لصق» لتزدهر أعمالنا وتتطور مجتمعاتنا. نشعر جميعنا بهذا، نرى أنظمتنا تُبنى على هذه القوالب المستوردة، سواء في الإدارة، أو التعليم، أو حتى في تخطيط مدننا، تُكتب اللوائح، وتُعلق على الحائط، وتبدو مثالية على الورق، لكن في العمق، نشعر بأن شيئًا ما خطأ، نشعر بأن هذه «الوصفة» لا «نكهة» لها، أو الأسوأ، أن «طعمها» غريب لا يشبهنا. السؤال الذي نخاف أن نسأله المشكلة في هذه «الوصفة» ليست أنها سيئة، بل في أننا لم نجرؤ على طرح السؤال الأهم والأبسط: «أفضل الممارسات.. ولكن لأي مجتمع؟» إن إطلاق هذا المفهوم وكأنه حقيقة كونية صالحة لكل مكان وزمان، فيه «تبسيط» شديد لتعقيدات الإنسان، وغموض متعمد يخفي خلفه حقيقة جوهرية: ما هو «أفضل» لمجتمع ما، قد يكون «مدمراً» لروح مجتمع آخر. لماذا؟ لأن هذه الممارسات لم تنشأ في فراغ. لقد نبتت من تربة ثقافة معينة، وتشربت قيم ومعاني تلك الثقافة. وحين نأخذها نحن، ونزرعها في تربتنا المختلفة، نصاب بالصدمة حين لا تثمر. حين يصطدم «الأفضل» بـ «الأجدر» في سياقنا الخليجي، نحن لا نُدار فقط باللوائح. نحن نُدار بشبكة دافئة من «المعاني» غير المكتوبة: «الاحترام»، «حفظ ماء الوجه»، وقوة «العلاقات الشخصية». • قد تأتي «أفضل الممارسات» بنظام تقييم صارم يفترض «سوء النية» في الموظف مسبقًا. هذا النظام يصطدم مباشرة بقيم «الأمانة» و»الثقة» التي هي أساس العمل عندنا. • قد تفرض «أفضل الممارسات» نظامًا «شفافًا» ينشر كل شيء علنًا، فيصطدم بقيمتنا العميقة في «حفظ ماء الوجوه» وعدم التشهير. عندما يحدث هذا التصادم، لا يفشل الناس في تطبيق النظام، بل يفشل النظام في فهم الناس. والنتيجة؟ تتحول هذه الأنظمة اللامعة إلى مجرد «أوراق حبيسة الأدراج»، ويبدأ الناس في التحايل عليها، ليس لرفضهم التطوير، بل دفاعًا عن «المعنى» و»الروح» التي يعرفونها. من «أفضل الممارسات» إلى «أفضل ما يناسبنا» التنمية ليست استنساخًا. الفوضى ليست خيارًا، ولكن «النسخ الأعمى» هو انتحار ثقافي. نحن لا نحتاج إلى التخلص من الحداثة، بل نحتاج إلى «نموذج ثالث» ؛ نموذج يمتلك الشجاعة ليسأل: «ما الذي يناسبنا؟». الحل هو الانتقال من «حوكمة الإجراءات» الباردة إلى «حوكمة المعنى» التي تشبهنا. أن ندرس تجارب العالم، لا لننسخها، بل لنفهم «الحكمة» من ورائها، ثم نعود إلى قيمنا ونصمم أنظمتنا الخاصة التي تحمل روحنا. نريد أنظمة تستلهم «الثقة» من مجالسنا، و»الأمانة» من قيمنا، و»البركة» من نوايانا. النظام الذي لا يحترم «المعنى» الذي نعيش من أجله، هو نظام سيفشل حتمًا، مهما بدا «أفضل» في عيون الآخرين.
243
| 03 ديسمبر 2025
سر «السلام» المفقود بين «المبنى» و»المعنى» .. نشعر به جميعاً في مجتمعاتنا الخليجية. إنه ذلك «التدافع» الصامت، و»الصراع» الخفي الذي نعيشه بين ما كنا عليه وما نحن مقبلون عليه. ثقافات تصطدم، وقيم تتضارب. نلمسه بوضوح حين تتزحزح القيم؛ نرى «الوجاهة» التي كانت تُبنى على «الخلق والاحترام» تتحول إلى سباق على «المظاهر». ونرى «الكرم» الذي كان «عطاءً صادقاً» يصارع «الاستعراض» و»التصوير». هذا ليس مجرد «تفاوت بين الأجيال»، بل هو الأثر العميق لسباق التنمية الذي نخوضه. ففي سعينا لبناء أحدث المدن، نتعرض، شئنا أم أبينا، لـ «ثقافات ذات أمواج عالية «.. إن «طبيعة هذه الموجة الثقافية الطاغية»، بتركيزها على الفردانية والسرعة والاستهلاك، «تسعى بقوة لأن تكون هناك فجوة بين الأجيال». هي تغذي هذا التباين، وتجعل كل جيل يشعر بأنه يتحدث لغة مختلفة. و»شأننا شأن أغلب المجتمعات»، لا يمكننا «الوقوف في وجهها» بجدار منيع، فالانغلاق يعني «النكوص» الحضاري. وفي الوقت نفسه، لا يمكننا الاستسلام والذوبان، فذلك يعني أن نفقد «روحنا» و»أصالتنا»، ونبني «تنمية ضخمة بلا روح». أمام هذا الواقع، نحن لا نبحث عن «الصدام»، بل يجب أن نبحث عن «السلام» لمجتمعاتنا. هنا يأتي دور «الحكمة». «فإن حكماء مجتمعاتنا»، من آباء ومربين ومسؤولين وأصحاب رأي، «عليهم التفهم لهذا الأمر». عليهم أن يدركوا أن هذه الفجوة ليست شراً مطلقاً، بل هي «تحدي نمو» طبيعي في عصرنا. الحل ليس في المقاومة العمياء ولا في اللوم. الحل يكمن في «المزيد من التواصل، والحوار،. وأيضاً الحوار». إننا بحاجة ماسة لأن «نتجنب ما يعمق هذه الفجوة». يجب أن نحذر من «الألفاظ» الجارحة، و»الازدراء» للجيل الجديد، أو «التصنيفات» و»الإقصاءات» التي تمارسها بعض الأجيال ضد بعضها. قد تبدو هذه «سلوكيات فردية»، لكن «أثرها قد يتسع» ويتحول إلى شرخ مجتمعي يصعب رأبه. كل كلمة «تصنيف» هي مسمار في جسر التواصل، وكل نظرة «ازدراء» هي هدم لأساس الثقة. إن التنمية الحقيقية التي نبتغيها لـ «مجتمعاتنا الخليجية» ليست مجرد أرقام، بل هي «تنمية متزنة» تحفظ «السلام» المجتمعي. وهذا يتطلب «الحكمة» في «فلترة» هذا الموج العاتي.أن نأخذ «المبنى» المتمثل في (التقنية، الكفاءة، التطور)، ونُصِر على أن نملأه بـ «المعنى» (الروح، القيم، الأصالة). وهذا «الاتزان» لن يتحقق إلا بمد جسور الحوار، لنبني مستقبلاً يشبهنا في «أصالته» ويرتقي بنا نحو الأفضل.
123
| 20 نوفمبر 2025
هل سبق لك أن جلست في اجتماع عمل، ونظرت إلى اللوائح المعقدة المعلقة على الحائط، أو التقارير الدورية التي يطلبها النظام، وشعرت بأن كل هذا «حبر على ورق»؟ كثيرون منا يشعرون بهذا. نرى مؤسساتنا، سواء كانت خاصة أو حتى حكومية، تستثمر الملايين في استيراد أحدث النظم الإدارية وبرامج «الحوكمة الرشيدة». يُكتب كل شيء بدقة: إجراءات التوظيف، آليات التقييم، نماذج الإفصاح عن تضارب المصالح، ومؤشرات الأداء (KPIs). ومع ذلك، بعد فترة قصيرة، تتحول هذه النظم اللامعة إلى مجرد «أوراق حبيسة الأدراج». لماذا يحدث هذا؟ الجواب السهل هو اتهام الناس بأنهم «يقاومون التغيير» أو «لا يحبون النظام». لكن هذا التشخيص سطحي وغير عادل. المشكلة في كثير من الأحيان ليست في النوايا، فغالباً ما تكون النوايا طيبة. المشكلة الحقيقية أن هذه الأنظمة المستوردة تتحدث بلغة لا نفهمها، أو الأسوأ من ذلك، تتصادم مع قيم أعمق تحكم سلوكنا الفعلي. في سياقنا الخليجي، نحن لا نُدار فقط بالهياكل التنظيمية. نحن نُدار بشبكة معقدة من «المعاني» غير المكتوبة: «المقام»، «الاحترام»، «حفظ ماء الوجه»، وقوة «العلاقات الشخصية». حين يصطدم «النظام» بـ «المجلس» خذ هذا المثال الواقعي: قد تنص لائحة الحوكمة الرسمية على أن «جميع القرارات الاستراتيجية يجب أن تُتخذ حصراً داخل اجتماع مجلس الإدارة الرسمي». لكن في واقعنا، يعلم الجميع أن القرارات الحقيقية قد «نضجت» وتم الاتفاق عليها مسبقاً في «مجلس الظل» – ربما في «مجلس/ ديوانية» أحد الأعضاء المؤثرين أو في لقاء ودي قبل الاجتماع. عندما يأتي النظام المستورد ويتجاهل هذه القناة الثقافية (المجلس أو الديوانية) ويعتبرها «غير مهنية» أو «تحايلاً»، فإنه لا يلغيها، بل ببساطة يدفعها للعمل في الخفاء، ويصبح الاجتماع الرسمي مجرد «مسرح» لتمرير ما تم الاتفاق عليه. النظام هنا لم يفشل لقلة دقته، بل لأنه اصطدم بقيمة «بناء التوافق» و»حفظ ماء الوجوه» التي نجلّها في ثقافتنا. حين يطلب «الإجراء» ما ترفضه «النية» مثال آخر: في كثير من مؤسساتنا، المحرك الأساسي هو «النية الطيبة» و»الثقة المتبادلة». نحن نعمل بروح «الأهل» و»الجماعة الواحدة».فجأة، يأتي نظام إداري يطالب الجميع بملء نماذج معقدة لكل إجراء بسيط، ويضع آليات رقابة صارمة تفترض «سوء النية» مسبقاً. هنا، لا يشعر الموظف بأن النظام يساعده، بل يشعر بأنه «متهم» وبأن الإدارة لا تثق به. رد الفعل الطبيعي هو التحايل على هذا النظام الذي يتحدث بلغة «الشك» بدلاً من لغة «الأمانة». الحل: الانتقال من «حوكمة الإجراءات» إلى «حوكمة المعنى» المشكلة إذن ليست في وجود نظام، فالفوضى ليست خياراً. المشكلة في استيراد نظام لا يملك «روحاً» تُشبهنا. نحن لا نحتاج إلى التخلص من الحداثة، ولا إلى التمسك بالتقليد الذي يعيقنا. نحن بحاجة إلى «نموذج ثالث» أصيل: «حوكمة المعنى». «حوكمة المعنى» هي ببساطة بناء أنظمة وإجراءات تستلهم روحها من قيمنا. إنها حوكمة تستخدم أدوات العصر الحديثة (كالتقنية ومؤشرات الأداء) بوعي وحكمة، ليس كأهداف في حد ذاتها، بل كخدم لمقاصدنا السامية. عندما نصمم نظاماً يتحدث لغتنا، ويحترم قيمنا، ويساعدنا على تحقيق «المعنى» من وجودنا، لن نحتاج لإجبار الناس على اتباعه. سيصبح النظام جزءاً منا، نحميه وندافع عنه لأنه يعبر عنا ويحفظ «البركة» في أعمالنا.
603
| 12 نوفمبر 2025
نقف اليوم أمام صروحٍ زجاجية تناطح السحاب، ونمشي في مدنٍ ذكية تَعِدُ باليُسر والكفاءة، نحتفي بلغة الأرقام، ونحتفل بارتفاع مؤشرات الناتج المحلي، ونرسل أبناءنا ليتعلموا أحدث علوم الهندسة والبرمجة والمال. هذا هو وجه «التنمية» اللامع الذي نعرفه ونبتغيه. لكن خلف هذا البريق، يتردد سؤال مقلق، همسٌ خافت يوشك أن يتحول إلى صرخة: ماذا عن تنمية «الإنسان»؟ في خضم سباقنا المحموم نحو «العمران المادي»، يبدو أننا نسينا «عمران الروح». لقد استثمرنا في كل ما هو «صلب» – الحجر والتقنية – وأهملنا بشكل خطير كل ما هو «ناعم»: الثقافة، والفكر، والهوية. نحن ندفع ثمن هذا الإهمال غالياً اليوم، فعندما تُهمل العلوم التي تدرس الإنسان والمجتمع والثقافة والتاريخ، يفقد المجتمع قدرته على فهم ذاته، وتشخيص أمراضه، وتحديد هويته في عالم متغير، نصبح كمن يمتلك أحدث جهاز «رادار» لكنه لا يملك «بوصلة»؛ نرى ما حولنا بوضوح، لكننا لا نعرف إلى أين نتجه. الفراغ الذي لا تملؤه الأبراج إن إهمال العلوم الإنسانية ليس مجرد خطأ أكاديمي، بل هو خطيئة إستراتيجية تخلق فراغاً هائلاً في قلب المجتمع، هذا الفراغ هو ما نشهده اليوم يتجسد في أشكال عدة: اغتراب ثقافي، وتفكك اجتماعي، وسطحية في الطرح. تفقد المجتمعات قدرتها على «طرح الأسئلة الكبرى حول معناها وغايتها ومستقبلها». لماذا نحن هنا؟ ما الذي يجمعنا؟ ما هي قصتنا التي سنرويها لأبنائنا؟ وحين تغيب هذه الأسئلة العميقة، يمتلئ الفراغ بالضجيج السطحي. «تتحول المجتمعات إلى مجرد تجمعات استهلاكية تفتقر إلى البوصلة الأخلاقية والروحية التي توجه مسيرتها». يصبح النجاح مجرد رقم في حساب بنكي، والسعادة مجرد سلعة تُشترى، والتنمية مجرد واجهات براقة تخفي خواءً داخلياً. لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا تخشى بعض مجتمعاتنا من الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع؟ الجواب يكمن في أن هذه العلوم هي «علوم السؤال» بامتياز. إنها لا تقدم إجابات جاهزة، بل تُعلّم «كيف نفكر»، لا «بماذا نفكر». هي بطبيعتها ناقدة، باحثة، ومقلقة للساكن. وهذا يتعارض بشكل مباشر مع البيئة التي يفرضها «الاستبداد السياسي ومصادرة حرية الفكر والتعبير». هذه البيئة الخانقة «هي التي تخنق أي نشاط علمي جاد في مجال العلوم الإنسانية»، فالخوف من السؤال النقدي لا يقتل المعارضة السياسية فحسب، بل يقتل «روح» المجتمع بأكملها، إنه يغتال قدرتنا على النقد الذاتي، وعلى فهم أخطائنا، وعلى تجديد ثقافتنا، هذا ما يمكن تسميته بـ «النكوص الحضاري»؛ أن نملك كل أدوات التقدم المادي، لكننا نفقد الحكمة والروح التي تقود هذا التقدم. التنمية المبتغاة: توازن الجسد والروح إن التنمية الحقيقية التي نبتغيها ليست اختياراً بين ناطحة سحاب وكتاب تاريخ، إنها ليست مفاضلة بين المهندس والفيلسوف، التنمية المبتغاة هي «التوازن»؛ أن نبني جسداً قوياً (العمران المادي) تسري فيه روحٌ واعية وأصيلة (الثقافة والهوية). نحن بحاجة ماسة لإعادة الاعتبار لهذه العلوم المنسية. نحتاج أن نعلّم أبناءنا الفلسفة كما نعلّمهم الفيزياء، وأن نفخر بمؤرخينا كما نفخر بمهندسينا، نحتاج أن ندرك أن «رأس المال الاجتماعي» و»الثقة» و»الانتماء» هي أصول لا تقل أهمية عن آبار النفط وأسواق المال. إن التنمية التي لا تبني «الإنسان» أولاً، هي تنمية عرجاء، مهما بدت شاهقة. فمصيرها أن تنهار، ليس في أساساتها الخرسانية، بل في أساسها الإنساني. والتحدي الأكبر أمامنا هو أن نبني مجتمعات تملك «بوصلة» قبل أن تملك «راداراً»، وتعرف «لماذا» تعيش، قبل أن تعرف «كيف» تستهلك.
621
| 29 أكتوبر 2025
لنتوقف لحظة عند عتبة بيوتنا في الخليج، ونتأمل ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الفخر بالقلق؛ حين نستمع بفخر لطفلنا وهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولكنة شبه أصيلة، معتبرين ذلك استثمارًا صائبًا في مستقبله. ولكن، يداهمنا القلق حين تنادي الجدة حفيدها بكلمة تراثية دافئة، أو يحاول الجد أن يروي له قصة من قصص الأولين، فيقابلهما الطفل بنظرة حائرة. هذه اللحظة تكشف عن حقيقة جوهرية: أي تنمية لا تنسجم مع الثقافة تخلق شرخًا وعدم توازن سنعاني منه مستقبلًا. إن أخطر أنواع هذا الشرخ هو تنمية عقول أبنائنا مع إهمال قلوبهم وهوياتهم. وهنا يبرز سؤال جوهري: في سعينا لتنمية «لغة العقل» - لغة العلم والوظيفة - هل بدأنا دون قصد في إضعاف «لغة القلب» لديهم؟ لغة الروح والهوية والانتماء. حين نجعل الإنجليزية لغة تواصلنا اليومي مع أبنائنا في المنزل، هل نبني لهم جسرًا نحو العالم، أم أننا نجعل من بيوتنا أول محطة اغتراب في حياتهم؟ إن أكبر خطأ قد نرتكبه هو الاعتقاد بأن اللغة مجرد أداة محايدة، فالحقيقة أن اللغة هي «وعاء الروح»؛ هي الشفرة التي نحمل بها أعمق مشاعرنا وذكرياتنا. عندما يقرر الأبوان، بحسن نية، جعل الإنجليزية لغة الحوار الأساسية، فإنهما يضعان نفسيهما وأطفالهما في حالة «ترجمة» مستمرة للمشاعر. الأم التي تريد أن تعبر عن حبها العميق بكلمات مثل «يا بعد عمري» أو «يا ضناي»، تجد نفسها تستبدلها بكلمة «My dear». الكلمة قد تؤدي المعنى، لكنها تفقد شحنتها العاطفية والثقافية الكاملة. هذا المجهود المستمر في «ترجمة المشاعر» يخلق مسافة خفية، ويجعل العلاقة أقل عفوية وأكثر تصنعًا. إننا نعلمهم لغة العقل، لكننا نفطمهم تدريجيًا عن لغة الوجدان التي تربطهم بنا وبأرضهم. تتعمق هذه المأساة حين تمتد إلى علاقة الطفل بأجداده. هؤلاء الكبار، كنوز الحكمة والذاكرة الحية لثقافتنا، يصبحون عاجزين عن التواصل الحقيقي مع أحفادهم. يقف حاجز اللغة سدًا منيعًا أمام الجد الذي يريد أن يروي قصة بطولة، وأمام الجدة التي ترغب في تعليم حفيدتها أصول الضيافة. تتحول العلاقة التي يجب أن تكون مصدرًا للدفء إلى مجرد ابتسامات ومجاملات سطحية. نحن لا نحرم أطفالنا من أجدادهم فحسب، بل من إرث ثقافي وروحي لا يمكن لأي مدرسة أجنبية أن تقدمه. الحل لا يكمن في رفض اللغات الأخرى، بل في إعادة كل لغة إلى مكانها الصحيح. تنمية أبنائنا مسؤولية تبدأ من البيت. • اجعلوا العربية لغة القلب والبيت: يجب أن يتخذ الأبوان قرارًا واعيًا بأن تكون اللغة العربية، بلهجتنا الخليجية الدافئة، هي لغة المشاعر والنقاشات وقصص ما قبل النوم. لتكن الإنجليزية لغة المهارة في المدرسة، والعربية لغة الهوية في البيت. • كونوا أنتم القدوة: تحدثوا معهم بالعربية، اقرأوا لهم قصصًا عربية، وشاهدوا برامج هادفة بلغتهم. إذا رأى الطفل أن لغته الأم ثانوية في نظر والديه، فلن يحترمها. • أغرقوهم في جمال ثقافتهم: خذوهم إلى الأماكن التراثية، علّموهم عن الأكلات الشعبية ومعنى «القهوة» و»إقلاط الضيف»، واجعلوا ثقافتهم جزءًا حيًا ومحبوبًا من حياتهم. في الختام، هدفنا الأسمى ليس تخريج أجيال تتحدث الإنجليزية بطلاقة، بل تربية أجيال تشعر بعمق بلسانها الأم، وتعبر عن أفكارها الأصيلة بأي لغة أخرى. حين نجعل بيوتنا فضاءات إنجليزية، قد نسلب أطفالنا ميزتهم الأهم: الشعور بالانتماء العميق والجذور الراسخة. الطفل الذي لا يجد هويته في بيته سيظل يبحث عنها طوال حياته. فلنجعل بيوتنا حصونًا لهويتهم، لا أولى محطات غربتهم.
474
| 15 أكتوبر 2025
يقف الآباء اليوم أمام معضلة كبرى: كيف نمنح أبناءنا «مهارات المستقبل» العالمية، كالبرمجة والذكاء الاصطناعي، دون أن نسلخهم عن «روح هويتهم» وقيمهم وجذورهم الروحية؟ كيف نمنحهم أجنحة يحلقون بها، وجذورًا قوية تشدهم إلى أرضهم؟ إن اكتساب هذه المهارات حتمي لمواكبة العصر، فمن لا يتقن أدوات اليوم يصبح من أميّي الغد. لكن الخطر يكمن في استيرادها كـ «حزمة ثقافية» كاملة تحمل في طياتها قيمًا قد لا تشبهنا، يضاف إلى ذلك المخاطر التقنية الكامنة في طبيعتها إن لم تُحكم بضوابط أخلاقية، مثل «تحيز الخوارزميات»، وقضايا «الخصوصية»، والتأثيرات النفسية للإفراط في استخدام الشاشات. الحل لا يكمن في الرفض أو القبول الأعمى، بل في طريق الحكمة: «توطين المهارات»، أي أن نأخذ الأداة ونستخدمها بوعي لصناعة ما يشبهنا. وهذا يتطلب إعادة تصميم طريقة التعليم نفسها، وذلك عبر: • ربط المهارات بأهداف مجتمعية: كأن نوجه طاقات المبرمجين الشباب لتصميم تطبيقات تخدم كبار السن في الحي، أو منصات تنظم العمل التطوعي. • تأطيرها ببوصلة أخلاقية: كأن نعلّم «التفكير النقدي» كأداة للوصول إلى اليقين «والتبيّن»، لا كأداة للتشكيك العبثي. • ممارستها بروح جماعية: كأن نربي أبناءنا على العمل الجماعي بروح «الشورى» و»التعاون»، لا المنافسة الفردية الشرسة. ويمكن ترجمة هذا الفكر إلى ابتكارات أصيلة في سياقنا الخليجي؛ فتتحول قيمة «الفزعة» إلى «هاكاثون الفزعة» لحل المشكلات الطارئة، ويتطور «الوقف» ليصبح «وقفًا رقميًا» يدعم المحتوى العربي المفتوح المصدر، ويتحول «المجلس» إلى فضاء يجمع العقول الشابة بالمسؤولين لطرح الحلول. إنها دعوة لتحويل مهارات العصر إلى أداة لتقوية نسيجنا الاجتماعي، لا لتفكيكه. إن الهدف النهائي لا ينبغي أن يتوقف عند «حماية الهوية» في موقف دفاعي، بل الارتقاء بها لتصبح مصدر إلهام عالمي. فالعالم الذي يعاني من أزمات المادية المفرطة، قد يكون متعطشًا لنموذجنا الذي يوازن بين النجاح المادي والسكينة الروحية. جيلنا الجديد ليس مكلفًا فقط بتعلم المهارات، بل بتصدير نموذج قيمي جديد للعالم، مغلف بهذه المهارات. إن تحقيق هذا التوازن مسؤولية تكاملية؛ فعلى صناع القرار في التعليم الاستثمار في تصميم مناهجنا الخاصة التي تنبع من بيئتنا. وعلى رواد الأعمال جعل «الأثر المجتمعي» مقياسًا رئيسيًا للنجاح تمامًا مثل «الربح». وعلى الإعلاميين والمؤثرين إبراز النماذج الشبابية التي نجحت في هذا التوازن، لتكون قصصهم الملهمة منارة تضيء الطريق للأجيال القادمة.
318
| 08 أكتوبر 2025
كانت الثقة يوماً ما فطرية، وكانت كلمة الرجل ميثاقاً. لكن الحياة تعقدت، ونشأت بيننا «ثقافة شكوك» لها ما يبررها. فهل نستسلم ونتحسر على الماضي؟ الحل ليس في الحنين، بل في الشجاعة على بناء مستقبل مختلف، عبر الانتقال من «الثقة الفطرية» المتآكلة إلى «الثقة الواعية» التي يجب أن نصنعها بأيدينا صناعةً. هذه الثقة الجديدة لا تُمنح تلقائياً، بل تُكتسب عبر عقد اجتماعي جديد، بنوده مستمدة من عمق ثقافتنا. ما هي بنود هذا العقد؟ بند الوضوح والبيان (لا غرر): الشفافية في ثقافتنا ليست مجرد نشر تقارير، بل هي شرط أخلاقي. فالمشروع الغامض باطل روحانياً قبل أن يكون فاشلاً إدارياً. بند الشورى والأمر الجامع: المشاركة المجتمعية ليست مجرد ممارسة إدارية، بل هي تطبيق لمبدأ «الشورى» القرآني، وتجاهلها خرق للمنهجية الربانية في إدارة الشأن العام. بند الأمانة والمسؤولية («كلكم راعٍ»): هذا الحديث يذكر القائم على أي مشروع بأنه ليس مجرد «مدير»، بل هو «راعٍ» مؤتمن على موارد وطموحات المجتمع. بند تفقُّد الأحوال (صلة الرحم المجتمعية): التواصل الفعال ليس مجرد اجتماعات، بل هو اهتمام شخصي حقيقي، كعاداتنا في العزاء والتهنئة، التي هي غراء يقوي المجتمع. بند حفظ الكرامة (لا منّ ولا أذى): هذا هو البند الجوهري. فطريقة تنفيذ المشروع لا تقل أهمية عن المشروع نفسه. يجب أن يشعر المستفيد بأنه شريك مُكرّم، لا مُتلقٍ للمنة. قد يسأل سائل: ولماذا كل هذا الجهد في عصر الشكوك؟ ألا توجد تكلفة ومخاطرة؟ بلى، فالثقة الواعية لا تعني السذاجة. لكن الحكمة تقتضي ألا نغفل عن التكلفة الباهظة لـ «نظام الشك» نفسه: تآكل العلاقات، موت المبادرات، وتضخم البيروقراطية الخانقة. التكلفة الأعظم للشك هي تفتيت «العصبية المجتمعية» التي هي روح الأمة وصمام أمانها. المطلوب إذن ليس ثقة عمياء ولا شكاً مُقعداً، بل هو التوازن. أن ندرك أن حفظ كيان المجتمع يتطلب منا الشجاعة على إعادة بناء جسور الثقة، لأنها شريان الحياة. إن دعوتنا هذه ليست مجرد دعوة لتحسين إدارة المشاريع، بل هي دعوة إستراتيجية لإعادة بناء «عصبية الأمة» التي تحدث عنها ابن خلدون، حتى نستعيد قدرتنا على التماسك والنهوض الحضاري.
240
| 01 أكتوبر 2025
حين نسمع عن الزكاة والوقف، تتبادر إلى أذهاننا صورة سلة طعام رمضانية أو فاتورة تُسدد. هذه أعمال جليلة، لكنها أشبه بإعطاء ماء بارد لعطشان. السؤال الأهم: ماذا عن اليوم التالي؟ هنا يظهر الخلل في الميزان بين «الإغاثة العاجلة» التي تعالج الأعراض، و»التمكين المستدام» الذي يستأصل جذور المشكلة. لقد شُرعت الزكاة والوقف ليكونا علاجاً شافياً للمرض، لا مجرد مسكن مؤقت للألم. فالزكاة، في تصميمها الأصلي، أداة للقضاء على الفقر لا لإدارته. هدفها النهائي ليس إبقاء الفقير معتمداً على المساعدة، بل انتشاله من دائرة الحاجة ليصبح هو نفسه مزكياً. والوقف، بفكرة «حبس الأصل وتسبيل المنفعة»، هو النسخة الأصلية والأكثر استدامة للاستثمار الاجتماعي، وهو المحرك الذي بنى الجامعات والمستشفيات عبر تاريخنا. لماذا إذن يطغى نموذج الإغاثة؟ لأن أثره فوري وحاجته ملحة. لكن الاعتماد الكلي عليه يخلق ثقافة الاتكالية. المؤسسة الخيرية التي تكتفي بالإغاثة تشبه مستشفى لا يملك إلا غرفة طوارئ؛ يقوم بعمل بطولي، لكنه لا يساهم في رفع المستوى الصحي العام للمجتمع. إن الدعوة هنا ليست لإيقاف الإغاثة، بل لإعادة توجيه الجزء الأكبر من مواردنا نحو «التمكين». هذا التحول ليس مجرد كفاءة اقتصادية، بل هو «جبر للخواطر»؛ فالأرملة التي تبيع أول قطعة من خياطتها لا تحصل على مال فقط، بل تسترد شعوراً بـ «فخر الإنتاج» الذي لا يمكن لأي مبلغ إغاثي أن يمنحه. قد يعترض البعض بأن الفتاوى الغالبة تدفع نحو الإغاثة العاجلة. هذا صحيح، لكنه ليس الصوت الفقهي الوحيد. فهناك مسار فقهي آخر، تبناه علماء أجلاء قديماً وحديثاً، يفتح الباب واسعاً لاستخدام أموال الزكاة في أمور تمكينية تحقق الغنى المستدام، وهو الأقرب لحكمة التشريع الأصيلة. كيف يبدو هذا على أرض الواقع؟ نحو زكاة تمكينية: بدلاً من إعطاء العاطل مبلغاً شهرياً، يمكن تسجيله في دورة تدريب مهني تضمن له وظيفة. وبدلاً من إعطاء الأرملة صدقة، يمكن شراء ماكينة خياطة لها وتدريبها على بدء مشروعها. نحو وقف يصنع الفرص: الوقف أداة بناء حضاري. تخيل «وقفاً للمحتوى العربي الرقمي» يمول إنتاج محتوى علمي لمواجهة التفاهة، أو «وقفاً لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي» لكيلا نكون مجرد مستهلكين سلبيين لتقنيات العصر. ولتحقيق ذلك، يجب أن نغير مقاييس نجاحنا. فبدلاً من قياس «عدد السلال الموزعة»، يجب أن نقيس «عدد الأسر المكتفية» التي لم تعد بحاجة لمساعدتنا. هذا أصعب ويتطلب متابعة، لكنه المقياس الحقيقي للنجاح. إن جوهر هذه الدعوة هو الانتقال من «عطاء الرحمة» الضروري لإطفاء الحرائق، إلى «عطاء الحكمة» الذي يمنع نشوبها مستقبلاً. أن ننتقل من دور «المسعف» إلى دور «البنّاء» الذي يشارك في تشييد مجتمع قوي، منتج، ومعافى.
417
| 24 سبتمبر 2025
بين الحين والآخر، يتجدد في مجتمعاتنا الخليجية نقاش حيوي حول عطلة نهاية الأسبوع. هو نقاش صحي، ولكنه غالبًا ما يُدار من زوايا قاصرة، كل واحدة منها تنظر إلى القضية بعين واحدة، ولا ترى الصورة الكاملة. هناك من يتعامل مع الموضوع من زاوية دينية بحتة، وهذا منهج لا يكفي، لأن إجازة نهاية الأسبوع في الإسلام ليست فريضة شرعية بل هي نظام اجتماعي. وهناك طرف آخر يتعامل معها من زاوية اقتصادية ضيقة، تركز فقط على التوافق مع أسواق المال العالمية، وهي أيضًا زاوية أحادية الجانب. وطرف ثالث ينادي بضرورة الاندماج في المنظومة الدولية حتى لا نبدو في نشاز عنهم، وهي حجة هشة لا تصمد أمام قضايا الهوية الكبرى. لكن هناك منهجية أخرى أكثر صلابة وعمقًا، وهي التي تدرك أن الموضوع ليس في مساحة الدين أو الاقتصاد أو السياسة، ولكنه في المساحة الأوسع والأشمل التي تحتضن كل هذا: مساحة «الثقافة». فكما تعلمنا، إن أي تغيير كبير في توازن المجتمع وتحريك أسسه، ينبغي أن يُدرس بمنهجيات تناسب حجمه وتأثيره. إن قوة «يوم الجمعة» الحقيقية تنبع من كونه مؤسسة ثقافية ودينية راسخة، و»طقسًا اجتماعيًا» له إيقاعه الخاص. هو اليوم الذي نقدس فيه فرض الجمعة كحدث محوري يعيد ضبط بوصلتنا الروحية، واليوم الذي تجتمع فيه الأسرة لتقرأ سورة الكهف، فتُسكب السكينة على البيت. ومن هذا المركز الروحي، تتفرع طقوس صلة الرحم، وغداء الأسرة الممتدة. وتفقد الأحياء، بل وحتى الأموات في المقابر. وهذا التماسك ليس مجرد شعور، بل ظاهرة اجتماعية عميقة، وهو ما يتوافق مع رؤية عالم الاجتماع إميل دوركايم بأن قوة أي مجتمع تكمن في «طقوسه الدورية» التي تجدد الروابط وتؤكد المعتقدات الجماعية. وما «ثقافة يوم الجمعة» إلا تطبيق حي لهذه النظرية، فهي الطقس الأسبوعي الذي يعيد نسج «العصبية المجتمعية». الحجة الأبرز لتغيير النظام هي اقتصادية بحتة: كسب يوم إضافي مع الأسواق العالمية. ولكن الحكمة تقتضي أن نحسب الخسارة غير المنظورة؛ فما سنكسبه من أموال لا يساوي معشار ما سنخسره من بعد ثقافي وقيمي في تفكك هذا الطقس الاجتماعي الذي يمثل شريان الحياة لأسرتنا، أغلى ما نملك. وهنا نصل إلى جوهر القصة: مجتمعاتنا الخليجية، بتماسكها الأسري، تشبه تلك البطة التي تبيض ذهبًا. «البطة» هي هذا الإرث من القيم، و»البيضة الذهبية» هي الاستقرار والأمان الذي تنتجه. والدعوة للتضحية بهذه البنية الثقافية من أجل مكاسب آنية، تشبه تمامًا قصة الطماع الذي ذبح بطته فخسر الأصل والربح معًا، في تدمير استراتيجي لأهم أصولنا. وفي الختام، فإن النقاش حول توقيت الإجازة يجب ألا يحجب عنا التحدي الأكبر. فالعبرة الحقيقية ليست في «متى» نعطل، بل في «كيف» نملأ عطلتنا. فإجازة فارغة من صلة الرحم والراحة المنتجة التي تنمي الإنسان وتعزز الهوية، هي خسارة ثقافية محققة، بغض النظر عن يومها. إن توريثنا أسرة متماسكة عميقة لأجيالنا هو أغلى من كل أموال الأرض.
603
| 17 سبتمبر 2025
في مجالسنا الخليجية ومحادثاتنا اليومية، يتردد صدى مألوف: سيل من الشكاوى حول أداء المؤسسات، أو سلوكيات الشباب، أو غلاء الأسعار. لا شك أن النقد ضرورة، لكن حين يتحول إلى نغمة دائمة، نكون قد وقعنا في فخ «ثقافة الشكوى» الذي يستنزف طاقتنا ويشل قدرتنا على الفعل. إنه خلل في ميزان الفرد الداخلي، حيث يلقي بكل ثقله في كفة «الظروف الخارجية»، ويترك كفة «الإرادة الذاتية» فارغة وخفيفة. لماذا تبدو هذه الثقافة جذابة في بيئتنا تحديداً؟ لعل السببين التاليين يفسران جزءاً من الظاهرة: أولاً، «متلازمة الدولة الراعية»؛ فعقود من الرعاية الحكومية الشاملة، رغم إيجابياتها، قلصت من حجم «عضلة المبادرة» الفردية، وجعلت من الشكوى أداة المطالبة الطبيعية. ثانياً، «رفاهية الشكوى»؛ فالرفاه المادي النسبي قد يحول الشكوى من تعبير عن ألم حقيقي إلى مجرد «فضفضة» في المجالس، مما يجعل الانتقال للمبادرة أكثر صعوبة، لأنه يتطلب «همة» واعية لا «حاجة» ملحة. في المقابل، يقف «صاحب المبادرة». هو ليس شخصاً خارقاً، بل فرد قرر أن يغير زاوية نظره. هو لا ينكر المشكلة، لكنه يرفض أن تكون نهاية القصة. هو يركز طاقته المحدودة على «دائرة تأثيره» المباشرة، مهما صغرت. هذا الشخص يجسد المفهوم القرآني لـ «عمارة الأرض»، فالله «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي كلفكم بمهمة الإصلاح والبناء. الشكوى هي عكس العمارة، إنها خراب نفسي، أما المبادرة فهي تطبيقها العملي. صاحب المبادرة لا يكتفي بالفعل، بل يسعى لـ»الإحسان» فيه، أي إتقانه وتجويده كأنه يرى الله. هو يرى في مبادرته، مهما صغرت، اقتداءً بأعظم المبادرين في التاريخ: الأنبياء والصالحين. فكيف نزرع بذرة المبادرة في حياتنا؟ -ابدأ بمملكتك الصغيرة: قبل إصلاح العالم، رتب سريرك، بادر بكلمة طيبة في بيتك. التغيير يبدأ من محيطك المباشر. -اختر معركة صغيرة وفز بها: لا تشغل نفسك بالمشكلات الكبرى. ابدأ بقضية صغيرة في حيك (كمنظر القمامة) أو عملك (كتنظيم الملفات). النجاح الصغير يولد دافعاً لنجاح أكبر. -ابحث عن شريك واحد: المبادرة مُعدية. شخصان يعملان أقوى من ألف شخص يشكون. ثم احتفلوا بانتصاركم الصغير، فالإيجابية هي وقود المبادرة. -حوّل المبادرة إلى كيان: بعد النجاح الأول، فكر في الاستدامة. تعلم مهارات «العمل المؤسسي» البسيطة: شكل فريقاً صغيراً، أو اكتب «ميثاق عمل» لمبادرتك. هذا ينقلها من الاعتماد على حماسك الشخصي إلى كيان يمكن أن ينمو ويستمر. إن استعادة التوازن التنموي في مجتمعاتنا ليست مهمة الحكومات وحدها، بل هي مسؤولية تبدأ من كل فرد. تبدأ في اللحظة التي تقرر فيها أن تكون مصدر ضوء، مهما كان خافتاً، بدلاً من أن تلعن الظلام. هذا التحول ليس عبئاً، بل هو تحرر، وهو أن ننتقل من كوننا مجرد نقاد سلبيين لقصة العالم، إلى أن نصبح مشاركين فاعلين في كتابة فصولها الأجمل.
369
| 03 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
2478
| 07 ديسمبر 2025
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2292
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
1200
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
783
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
681
| 11 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
663
| 08 ديسمبر 2025
أيام قليلة تفصلنا عن واحدٍ من أجمل أيام...
597
| 08 ديسمبر 2025
يُتهم الإسلام زورًا وبهتانًا بأنه جاء ليهدم الدنيا...
594
| 07 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
576
| 12 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
570
| 07 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
543
| 11 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية