رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. جاسم الجزاع

* باحث وأكاديمي كويتي
Jassimaljezza@hotmail.com

مساحة إعلانية

مقالات

183

د. جاسم الجزاع

«قطر ورهانها الصعب على بناء الوعي.. معجم الدوحة التاريخي للغة العربية»

24 ديسمبر 2025 , 06:12ص

من يقرأ في التاريخ العربي، يجد أن بعض القرارات المصيرية اتخذت لتدبير حاضرهم آنذاك، وأخرى يتم اتخاذها لصناعة المستقبل، وبين هذا وذاك، تقف اللغة بوصفها الحدّ الفاصل بين دولة تُدار بالأمزجة المتقلبة، ودولة تفهم ذاتها وقيمتها ومرجعيتها، من هنا لا يمكن قراءة اكتمال «معجم الدوحة التاريخي للغة العربية» بوصفه خبرًا ثقافيًا عابرًا، بل بوصفه امتدادًا هادئًا لسلسلة طويلة من الوعي بالسيادة القطرية العربية وبنائها، حيث أدركت السلطة القطرية أن اللغة العربية ليست زينة الحكم، بل هي حقيقة بنيتها العميقة.

ولو رجعنا الى التاريخ، نجد أنه عندما تولّى الخليفة العربي الكبير عبد الملك بن مروان الخلافة، كانت دواوين الدولة الإسلامية تُدار بلغاتٍ غير عربية، كالرومية في الشام، والفارسية في العراق، وكان ذلك مفهومًا ومتقبلاً في زمن التأسيس، حين اقتضت الحكمة السياسية الحفاظ على النظم القائمة ضمانًا للاستقرار المؤقت، إلاّ أن عهد عبد الملك والذي تميز بتبلور نظام الدولة العربية الحديثة وانتقالها من طور الفتح إلى طور التمكين، أدرك عبدالملك أن بقاء اللغة العربية بعيدة عن مراكز اتخاذ القرار وبناء الدولة سيتحوّل إلى خطرٍ بنيوي لا محالة، فالدولة التي تُدار بلغة غيرها، تُدار بنصف سيادة أو سيادة مفقودة.

فلم يكن تعريب الدواوين في عهد الخليفة عبدالملك قرارًا لغويًا، بل قرارًا معرفيًا وجودياً سياديًا، فالأمة التي تدير شؤونها بلسان غيرها، تفكر أيضاً بعقل غيرها، مهما رفعت من شعارات الاستقلال، فمنذ تلك اللحظة، خرجت العربية من كونها لغة خطاب ودين، إلى لغة للإدارة وبناء الحضارة، وهي قادرة على أن بناء كل أركان الحياة والوجود، كالاقتصاد، والقانون، والعلوم، وغيرها.

والآن بعد مرور قرون عديدة جاءت التجربة القطرية في مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، والذي يوثق تاريخ الألفاظ العربية وتحولاتها الدلالية عبر نحو القرون المتعددة، فملايين الكلمات ليست رقمًا دعائيًا، بل شاهد على جهد طويل النفس تم بذله بعناية قطرية، وعلى دولة تفهم أن المشاريع المتعلقة بلغة الأمة لا تُقاس بالعمر والسنين والتكاليف المالية، بل بحقيقة استخدامها في بناء حضارتها وصناعة منظومة السيادة.

واللافت في التجربة القطرية هنا أنها لم تتعامل مع اللغة العربية بوصفها رمزًا وأداة لبناء الهوية فقط، بل بوصفها موردًا معرفيًا استراتيجيًا مستداماً، فرعاية المشروع على أعلى مستوى بالدولة، وإشراف مؤسسي تخصصي، كلها مؤشرات على فهم القيادة القطرية، أن الاستثمار في اللغة هو استثمار في الإنسان، وفي تطوير قدرته على التفكير المثمر، لا مجرد ترف ثقافي.

وقطر، في هذا المشروع، لم تدّعِ وصاية على العرب والعربية، بل قدّمت خدمة لها، وللعرب جميعًا، ففتحت المعجم ليكون مرجعًا للمؤسسات، والحكومات والأفراد في شتى الفنون والعلوم.

غير أن اكتمال المعجم في قطر، لا يعفينا – كعرب – من تحمل المسؤولية جميعاً، فالفجوة ما تزال قائمة بين ما ننجزه مؤسسيًا، وما نعيشه اجتماعيًا، والواجب علينا جميعا كعرب أن نسدد ونقارب ونقلل هذه الفجوة، فمعجم الدوحة يضع الأداة في أيدينا، لكنه يدعونا إلى تطبيق عملي في سائر ديار العرب، فنحن لا نريد لغة نحتفي بها، بل نريد لغة تدير لنا شؤوننا وترسم لنا خريطة الطريق للمجد، فإن كانت البداية عند عبد الملك بن مروان عندما اختار أن تُدار الدولة بلغتها وهويتها، فقطر اليوم، تكمل المسيرة وتسعى أن تُدار اللغة بمنهج علمي مؤسسي، فالأمم لا تنهض بالشعارات المستوردة، بل بالبُنى المنطلقة من موروثها اللغوي والقيمي.

 

مساحة إعلانية