رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عبدالرحمن الشمري

مساحة إعلانية

مقالات

663

عبدالرحمن الشمري

لماذا قطر؟

24 ديسمبر 2025 , 06:31ص

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل هذا العمل قبل قطر؟

لأن المعجم التاريخي للغة العربية ليس مشروعًا سهلًا، ولا سريع النتائج. فهو يحتاج إلى رؤية بعيدة المدى، وصبرٍ مؤسسي طويل، وتمويلٍ مستدام، وفِرق علمية تعمل سنواتٍ متواصلة دون ضجيج إعلامي أو مكاسب سياسية مباشرة. وكثير من الدول، رغم إمكاناتها المالية الضخمة، فضّلت المشاريع سريعة الأثر، أو انشغلت بأولويات آنية تحقق عوائد مادية، فأُهملت المشاريع المعرفية العميقة التي لا تُؤتي ثمارها فورًا.

في هذا السياق، اختارت قطر أن تستثمر في مشروع لا يدرّ أرباحًا، ولا يبرز في صورة عابرة أو مؤتمر احتفالي، بل يقوم على سنوات من العمل الصامت، والبحث الدقيق، والصبر الطويل. وهذا الاختيار بحد ذاته رسالة حضارية واضحة، مفادها أن بناء الإنسان يبدأ ببناء أدوات معرفته، وأن اللغة ليست سلعة، بل أساس للوعي والهوية والتواصل.

واليوم، يخدم معجم الدوحة التاريخي للغة العربية القارئ العادي حين يقرأ نصًا تراثيًا فيفهمه كما أُريد له أن يُفهم، لا كما توحي به معانٍ أخرى أو معانٍ معاصرة طارئة. وكذلك يخدم الطالب حين يدرس، والباحث حين يكتب، والقاضي حين يفسّر نصًا، والمُشرِّع حين يصوغ قانونًا، والمفكّر حين يناقش مفهومًا، والإعلامي حين يُعد خطابًا عامًا لا يلتبس معناه بين بلد وآخر.

والأهم أن المعجم يسهم عمليًا في توحيد المصطلحات في العالم العربي، وهي مشكلة تعاني منها الجامعات ومراكز البحث منذ عقود، حيث يختلف معنى المصطلح الواحد بين دولة وأخرى، بل أحيانًا بين مؤسسة وأخرى. وعندما تتوحّد دلالة المصطلح، يصبح الحوار العلمي أكثر دقة، ويقلّ الخلاف القائم على سوء الفهم اللغوي لا على الاختلاف الحقيقي في الرأي.

ولتقريب المعنى إلى القارئ أكثر، يمكن مقارنة هذا المشروع بمعاجم عالمية راسخة، مثل Oxford English Dictionary، الذي لا يُعدّ مجرد قاموس، بل مرجعًا حضاريًا تعتمد عليه الجامعات، والمحاكم، ووسائل الإعلام، والباحثون لفهم تطوّر اللغة الإنجليزية وتحول معانيها بدقة. وكذلك الحال مع المعاجم التاريخية الفرنسية والألمانية، التي تُعد ركائز أساسية في البحث العلمي والفكري.

واليوم، وبفضل هذا المشروع، تمتلك اللغة العربية للمرة الأولى في تاريخها المدوّن، وبعد أكثر من ألف عام من التأليف المعجمي، معجمًا تاريخيًا يربط اللفظة بزمنها، ويؤرّخ لمسار معناها، ويكشف تحوّلات دلالتها عبر العصور، لا أن يكتفي بشرحها كما استقرّت في زمن واحد.

والفضل في ذلك، بعد توفيق الله، يعود إلى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدّى، الذي تبنّى هذا المشروع الحضاري ووقف خلفه لسنوات طويلة، إيمانًا بأن خدمة اللغة العربية استثمار في الإنسان، وأن المشاريع المعرفية العميقة هي التي تصنع أثرها الحقيقي مع الزمن.

لقد أصبح بين أيدينا اليوم مرجع تاريخي يُحتكم إليه، ويُبنى عليه، ويمنح اللغة العربية المكانة التي تستحقها بين لغات العالم الحيّة. فكما لا يمكن دراسة الفكر الغربي دون الرجوع إلى معاجمه التاريخية، لن يكون ممكنًا مستقبلًا دراسة التراث العربي، أو فكره، أو لغته، دون العودة إلى معجم عربي جامع أنجز ما أنجزه معجم الدوحة التاريخي.

ومن هنا، تتجلّى قيمة ما أُنجز؛ فمعجم الدوحة التاريخي لم يأتِ ليسدّ نقصًا لغويًا فحسب، بل ليقدّم نموذجًا لما تصنعه الإرادة حين تلتقي المعرفة بالرؤية الحضارية. إنه مشروع يخدم الحاضر، ويؤسّس للمستقبل، ويؤكد أن اللغة العربية قادرة، متى وُجد من يرعاها علميًا، أن تكون لغة معرفة دقيقة في زمن التحديات الكبرى.

مساحة إعلانية