رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
خطاب تاريخي لسمو الأمير أمام مجلس الشورى
كلمة حق بوجه مجتمع دولي جائر
خطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد السنوي الثاني والخمسين لمجلس الشورى كان موعدا مع التاريخ، مع لحظة الحقيقة، وصوت الحق، والضمير العربي، الذي يأبى التخلي عن شعب فلسطين وقضيته العادلة، مهما بلغ التحالف العالمي مع الباطل والعدوان ضد العدل وحقوق الإنسان.
كان هذا الخطاب لحظة من التاريخ لأنها أول مرة يبدأ صاحب السمو خطابه السنوي أمام مجلس الشورى بالحديث عن قضية أو شأن خارجي، باعتبار أن هذا الخطاب موجه للداخل بقدر كبير، ويرسم استراتيجية العمل خلال المرحلة المقبلة، ويضع خريطة طريق للحكومة في عملها القادم، لكن هذه المرة تجاوز سموه ذلك، وكسر هذا العرف، ليبدأ بالحديث عن القضية الفلسطينية، لأنها هي الأخرى تعيش مرحلة فارقة من التاريخ، في ظل هذا العدوان البربري الذي تتعرض له غزة، وهذا التآمر العالمي مع المجرم على حساب الضحية، ومنحه الغطاء لارتكاب جرائمه الوحشية دون رادع.
الشأن الفلسطيني تصدر خطاب سمو الأمير في افتتاح دور الانعقاد العادي لمجلس الشورى لأول مرة قبل الشأن المحلي، وهي رسالة للعالم أن فلسطين في الأجندة القطرية ليست مجرد قضية تخص السياسة الخارجية، بل هي في موضع الأولوية والأهمية لدى دولة قطر، قيادة وحكومة وشعبا.
لقد عبر سموه عن الوجدان العربي، وألقى باللائمة على سلطة الاحتلال، وما تقوم به من حرب إبادة لا مثيل لها في العصر الحديث، مستخدمة كل أنواع الأسلحة الفتاكة والممنوعة دوليا، وبالتوازي تقع اللائمة على المجتمع الدولي، الذي يغض الطرف عن هذه الجرائم ضد الإنسانية ويكيل بمكيالين، مؤكدا أن ما يجري خطير للغاية، بما في ذلك الدوس على جميع القيم والأعراف والشرائع السماوية والقوانين الدنيوية، وليس على القانون الدولي فحسب، بل إن التصرف بات وكأن حياة أطفال فلسطين لا تحسب، وكأنهم بلا وجوه ولا أسماء.
خطاب سمو الأمير رسم صورة واضحة للحقيقة الماثلة أمام العيان، وحدد موقف قطر الصريح والواضح، وأهاب بالمجتمع الدولي، بدوله ومنظماته للوقوف صفا واحدا ضد هذه الهجمة الشرسة والعدوان الغاشم ضد شعب آمن أعزل تستباح حياته وممتلكاته ويسلب أبسط حقوق الإنسان، وضد التهجير القسري الذي يجاهر به الكيان الإسرائيلي.
هذه الحقيقة سوف يسجلها التاريخ، وستبقى محفورة في ذاكرة الأجيال الذين سيحفظون مواقف صاحب السمو الذي انتصر للشعب الفلسطيني وساند حقوقه العادلة في وقت تخلى العالم عنهم وتلكأ بعض العرب عن نصرة فلسطين وقضيتها.
انتصار سمو الأمير لفلسطين ليس لمجرد أنها قضية عربية أو إسلامية، أو انتصار لمنطقة جغرافية، بل لأنها قضية حق وعدل، قضية عادلة، قضية شعب محتل، سلبت حقوقه وأراضيه ومقدساته، ويعاني القتل والتشريد والتدمير، ويعيش في الملاجئ، ويراد له اليوم التهجير الثاني أو الثالث في تاريخه.
سيذكر التاريخ أن أمير قطر دشن خطابه أمام مجلس الشورى بالوقوف إلى جانب فلسطين والتضامن معها، خلافا لما درجت عليه خطابات سنوات ماضية، وأحداث سبقت، وفعل ما لم يفعله زعيم آخر، وأعلن بوضوح أنه يرفض الكيل بمكيالين كما يفعل المجتمع الدولي الذي ينحاز بشكل أعمى للعدوان الإسرائيلي.
وسيذكر التاريخ أن سموه قال بصراحة: «كفى. لا يجوز أن تـمنح إسرائيل ضوءاً أخضر غير مشروط وإجازة غير مقيدة بالقتل، ولا يجوز استمرار تجاهل واقع الاحتلال والحصار والاستيطان، ولا يفترض أن يسمح في عصرنا باستخدام قطع الماء ومنع الدواء والغذاء أسلحة ضد شعب بأسره».
هذا الموقف النبيل والأخلاقي لسمو الأمير ليس بالأمر المستغرب على سموه، الذي لطالما انتصر للشعوب وللقضايا العادلة، ودافع عن قضايا الأمة وشعوبها.
هذا الموقف أثلج صدور الشعوب العربية التي وجدت في خطاب سمو الأمير تعبيرا صادقا عن وجدانها، ورسالة للمجتمع الدولي المنحاز للكيان الإسرائيلي وممارساته الإجرامية.
شكرا سمو الأمير على هذا الموقف المنحاز إلى الحق والعدالة وحقوق الإنسان، والذي جاء أيضا كوقفة مدوية بوجه الضمير العالمي المستغرق في انحيازه وتجاهله لأبشع حرب إبادة تجري في العصر الحديث بحق المدنيين والأبرياء، بحق شعب فلسطين المحاصر في غزة.
ولذلك دعا سموه إلى «وقفة جادة إقليمياً ودولياً أمام هذا التصعيد الخطير الذي نشهده والذي يهدد أمن الـمنطقة والعالم، وندعو إلى وقف هذه الحرب التي تجاوزت كل الحدود، وحقن الدماء وتجنيب الـمدنيين تبعات الـمواجهات العسكرية، والحيلولة دون اتساع دائرة الصراع».
شكرا سمو الأمير لقد لامست كلماتك ـ التي خرجت من القلب ـ الوجع الفلسطيني حيث غاب الأصدقاء وتقاعس الأشقاء.
شكرا سمو الأمير لأنك عبرت في خطابك، وتحدثت بلسان الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، التي تتألم لألم أهل غزة وشعب فلسطين وما يلاقونه من جرائم وحشية بكل دقيقة وثانية.
شكرا لأنك الصوت المرتفع دفاعا عن فلسطين وأهلها فيما يتوافد رؤساء الدول الكبرى والعظمى إلى إسرائيل للتضامن معها والإعلان عن تحالف عسكري معها في حرب الإبادة الشاملة بحق أهلنا في غزة.
شكرا سمو الأمير لإعادة تصويب الحقائق بسؤالك للمصطفين خلف الحرب ويعملون على إسكات الصوت المخالف: ماذا بعد هذه الحرب؟
شكرا سمو الأمير لردك الحاسم والجازم بوجه كل من يدعو لترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم بأن «الشعب الفلسطيني باق»، ولن ينفع استمرار الحصار والمصادرة والاستيطان في إنهاء أو القضاء على القضية الفلسطينية.
شكرا سمو الأمير لكلمة الحق والحقيقة أن الحرب لا تقدم حلاً من أي نوع، وأنها سوف تفاقم الـمعاناة وازدياد عدد الضحايا، وكذلك الشعور العميق بالغبن.
شكرا سمو الأمير لأنك أخبرتهم أن صمت المجتمع الدولي يوازي التجربة المروعة لأطفال فلسطين الذين قتل أهلهم وأترابهم أمام أعينهم.
شكرا سمو الأمير لأنك أعدت تذكير هذا المجتمع الدولي المتخاذل بأن السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار للشعبين هو ما يتم تجنبه حتى الآن، وهو تحقيق السلام العادل والدائم وحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه الـمشروعة التي أقرتها الهيئات الدولية، بـما فيها إقامة دولته الـمستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
صناعة السلام
لقد جاءت هذه الوقفة المدوية دفاعا عن فلسطين وأهلها منسجمة ومتكاملة مع سياسة قطر الخارجية التي أكد سمو الأمير المفدى أنها تقوم على دور بناء في صنع السلام وحل النزاعات بالطرق السلمية، والتشديد على العدالة في العلاقات الدولية.
هذا الدور يأتي في صلب سياسة قطر الخارجية انطلاقا من قول سموه «نحن لا نقف متفرجين إزاء استمرار تردي الأوضاع في بعض الدول الشقيقة، ونعمل ما بوسعنا للمساعدة في معالـجتها من منطلقات التضامن والـمسؤولية والاستقرار الإقليمي، ونشعر بالارتياح لأي تقدم في حل الـخلافات من خلال الـحوار بين الدول».
لقد نجحت قطر في القيام بهذا الدور حتى صارت تعرف بأنها وسيط موثوق به في صنع السلام وفض النزاعات عبر الحوار والدبلوماسية، هذا النجاح هو موضع فخر للدبلوماسية القطرية وهو صفحة مضيئة تسطرها قطر على جبين التاريخ.
اقتصادنا بخير
وفي إضاءة سموه على الشأن المحلي حضر الاقتصاد حيث إن الأزمات والتحديات تعصف بالاقتصاد العالمي غير أن اقتصادنا الوطني ما زال معافى وبخير، يواصل نموه وازدهاره، معززا بمشروع توسعة الغاز وإستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة، كما استفاد اقتصادنا الوطني من ارتفاع أسعار الطاقة عن السعر الـمعتمد في الـموازنة العامة للدولة، مما ساهم بتحقيق فائض مالي يستخدم في خفض الدين العام، والذي انخفض من 73% في 2020 إلى ما دون 40% بنهاية النصف الأول من العام الجاري، وهو ما يشكل إنجازا للاقتصاد القطري واستقراره.
وأكد سمو الأمير أن الدولة ماضية في اتخاذ إجراءات على الـمستويين التشريعي والإداري لتعزيز الانفتاح الاقتصادي والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وحماية حقوق الـملكية الفكرية، ودعم تنافسية الـمنتج الوطني، والتحول الرقمي.
وفي هذا الإطار يأتي اهتمام سمو الأمير بتطوير بيئة الأعمال وجذب الاستثمار وتحقيق الفائدة من البنية التحتية الـمتاحة، مع التأكيد على تفعيل آلية تطوير التشريعات الـمنظمة للاستثمار الأجنبي لإزالة الـمعوقات التي تواجه ذلك الاستثمار، وإبراز قطر على الصعيد الدولي كحاضنة للاستثمار الدولي الـمباشر.
ومن بين القضايا المهمة التي تطرق سموه لها ما يتعلق بالثغرات البيروقراطية والقانونية لتعزيز الاستثمار، لافتا إلى أن هذه الثغرات قد تنجم أحياناً من جهل الـموظفين أنفسهم بها، والتضارب بين الهيئات، وهي أمور يـمكن حلها بسهولة.
في خطاب سمو الأمير لم تغب قضية التنمية التي موقع الأولية في رؤية قطر الوطنية والتي أساسها الاستثمار في رأس المال البشري، كما أن البيئة تحتل مرتبة مهمة في التنمية، حيث تعمل الدولة على زيادة المساحات الخضراء.
وحضرت السلطة القضائية في خطاب سمو الأمير، فالارتقاء بالمنظومة القضائية وصولا لتحقيق العدالة الناجزة وذلك عبر استكمال البنية التشريعية القضائية وصدور القوانين المعززة للسلطة القضائية، يشكل أولوية لسموه، وفي كل خطاب يركز سموه على ضرورة إنجاز كل ما يتعلق بتحقيق العدالة الناجزة.
ولم يغب عن خطاب سمو الأمير مضامين تتعلق بالقيم والمبادئ والأخلاق، وهو ما درج عليه سموه في ترسيخها عبر الإشارة إليها في خطابات مجلس الشورى في كل مرة، وهذه المرة أشار إلى ضرورة إدراك المواطن أهمية دوره كل في موقعه، والمسؤوليات التي تقع عليه، وواجباته تجاه الوطن، وتكامل الأدوار على مستوى الأفراد والمؤسسات، لينعكس ذلك إيجابا في صورة قطر الخارجية، والتفاعل الحضاري، وتقبل الاختلاف، وهو أمر لا يتناقض مع الهوية القطرية والعربية المسلمة، بل يسهم في مزيد من التقدم والتطور، ويواكب متطلبات المرحلة التي تعيشها المجتمعات.
إن خطاب سمو الأمير في دور الانعقاد الجديد لمجلس الشورى جعلنا مطمئنين إلى أحوالنا الداخلية والتنموية وفخورين بسياستنا الخارجية والمواقف التاريخية التي أعلنها سموه انتصارا للشعب الفلسطيني، وما يعانيه أهلنا في غزة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة من عدوان غاشم لا يراعي قيما ولا عرفا وقانونا ولا تشريعا.
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
252
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
123
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
267
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6387
| 24 أكتوبر 2025
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6333
| 27 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5103
| 20 أكتوبر 2025