رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يعيش العرب والمسلمون هذه الأيام مواكب تشييع جنائز شهدائنا الأبرار ولعل البعض منا يصاب بالإحباط والحزن ولكن ما نشاهده على قنوات المحتل من مواكب تشييع قتلاه يعيد الأمل للقلوب المؤمنة ويعطي الحق لمن اختار نهج المقاومة حتى نيل الحقوق المشروعة. وفي هذا المعنى نقرأ ما جاء في صحيفتين غربيتين، إذ تعتبر مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية أشهر المجلات المتخصصة في التحليل السياسي والإستراتيجي في العالم والمفككة الأكاديمية لكل الأزمات الخطيرة وبؤر العنف التي تهدد السلام والأمن الدوليين وتنذر بالانفجار دون إعطاء مؤشرات أو تمهيدات للحظة الحاسمة. و(فورين بوليسي) هي مجلة أمريكية تصدر كل شهرين أسسها سنة 1970 صامويل هنتغتون صاحب نظرية «صدام الحضارات». ولهذه الأسباب تزداد تقاريرها قيمة مضافة للحقائق التي قيلت لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 عديد المرات بأن اغتيال قادة ومؤسسي التنظيمات المقاومة للاحتلال لا يخدم إسرائيل بل يقوي تلك التنظيمات ما دامت تستعمل حقها في التصدي للاحتلال والاستيطان وهو حق يقره ميثاق منظمة الأمم المتحدة بل ويضيف لوسائل المقاومة المسلحة منها بقصد استرجاع بلاد محتلة وحق مغتصب.
*وأكد تقرير لمجلة فورين بوليسي في عددها الأخير أن قتل إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى السنوار لن يزيد الحركة إلا ضراوة، وبينما قد يبدو الأمر إنجازا كبيرا اليوم إلا أنه مع مرور الوقت سينهض مكانه آخرون - كما هو الحال دائما - وستستمر المقاومة. وقال المتخصص في شؤون الشرق الأوسط (ستيفين كوك) وهو كاتب عمود في المجلة إن التاريخ يشهد على «استحالة القضاء على حركة مقاومة» بقتل أعضائها ولن يردع «أصحاب القضية» قتل قادتهم بل سيؤدي بهم إلى مضاعفة جهودهم نحو تحقيق أهدافهم. وأشار الكاتب إلى أن المقاومة ليست مشروعا «عقيما» بل «جزء أساسي من هوية من ينتسب إليها»، ولهذا السبب بالتحديد كان السنوار يرغب ألا يموت ميتة طبيعية بل بقذيفة دبابة على أرض المعركة، معتقدا أن ذلك سيقوّي المقاومة.
وحذر الكاتب الإسرائيليين من أن ينشغلوا بالاحتفال وتوزيع الحلوى عن الواقع وخاطبهم متسائلا: «أتذكرون أبرز مؤسسي حماس أحمد ياسين أو القيادي الفلسطيني خليل الوزير (أبوجهاد) ثم ماذا عن الأمين العام السابق لحزب الله عباس الموسوي أو مؤسس حركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي لقد كانوا بمنزلة وحوش لإسرائيل في السابق واستطاعت اغتيالهم كلهم ولكن المقاومة استمرت!. وأضاف «بقدر براعة الإسرائيليين في الثأر لدماء قتلاهم إلا أنهم لم ينجحوا قط في وضع نهاية حقيقية للمقاومة طوال العقود الماضية فما الذي يجعلهم يظنون أن قتلهم السنوار سيؤدي إلى نتيجة مختلفة هذه المرة؟ وبرأي الكاتب فإن قتل إسرائيل لرئيس حماس يحيى السنوار لن يكسر حماس بل سيشعل الغضب والرغبة في الانتقام في قلوب أعضائها تماما كما لم يضعف حركة الإخوان المسلمين اغتيال مؤسسها حسن البنا سنة 1949.
ويرى كوك أن إستراتيجية إسرائيل الفاشلة في القضاء على الحركات باستهداف قادتها تماثل عقلية الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فعلى الرغم من قتل القوات الأمريكية مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وخلفه أيمن الظواهري فإن التنظيم نجا كما استيقظ من رقدته تنظيم الدولة (داعش) بعد مقتل مؤسسه أبوبكر البغدادي ولا تزال هذه التنظيمات تشكل تهديدا للولايات المتحدة وحلفائها حتى اليوم.
*في نفس السياق من جهتها قالت صحيفة «أوبزيرفر» البريطانية واسعة التوزيع إن صور مقتل المحارب الأخيرة وهو يدافع عن قضيته إلى الرمق الأخير أعطت لرئيس المكتب السياسي الراحل لحركة حماس يحيى السنوار مكانة عالية في «مقبرة العظماء» الفلسطينيين وأشارت بكل أمانة إلى أن الرواية الإسرائيلية التي كانت تقول إن مقاتلي حماس كانوا يتمتعون في الأنفاق بشرب الماء وأكل الطعام هي نفس الرواية التي قيلت عن السنوار وأنه محاط بالأسرى كدروع بشرية وهو ما ثبت عكسه في مشهد مقتله أثناء اشتباك مسلح بين الجيش الإسرائيلي وفصائل حماس بثته القنوات الإسرائيلية نفسها. وأضافت (الأوبزيرفر) أن «إرث السنوار سيتعزز من خلال روايته «الشوك والقرنفل» التي عبر فيها عن استعداده للتضحية بكل شيء من أجل الكرامة والعزة والإيمان، متسائلا: فلماذا التفاوض مع إسرائيل من موقف المغلوب إذن؟ تساءل السنوار مضيفا: عندما تستطيع حماس فرض شروط أخرى للعبة وهو ما تم عندما أنجزنا السابع من أكتوبر. وقال الصحفي عندما خطط السنوار لهجمات العام الماضي فكر فيما سترثه الأجيال القادمة. ثم أكدت الصحيفة البريطانية: «ستظل الأسطورة التي رباها واعتنى بها وهو حي بعده من خلال آلاف الملصقات واللوحات الجدارية وقد غيرت هجماته قواعد اللعبة والسؤال سيظل مفتوحا: ماذا جنت إسرائيل من اغتيال القادة؟ ولفتت الصحيفة إلى أن حقيقة مقتله في ساحة المعركة وهو يرتدي البزة العسكرية ويرمي القنابل اليدوية ويحاول منع اقتراب مسيرة منه بعصاه الخشبية بيده الوحيدة التي ظلت سليمة في صورة أخيرة عن التحدي في ظل كثرة الروايات الإسرائيلية والتي تضع زعيم حماس في مقام خاص عن أسلافه الذين اغتالتهم إسرائيل بغارات جوية وإسقاط قنابل على الأماكن التي كانوا فيها. وقالت إن الاحتلال حين اغتال الشيخ أحمد ياسين في 2004 كان على كرسيه المتحرك خارجا من الصلاة ولا تزال صور الشيخ أحمد ياسين شائعة في غزة والضفة الغربية وهي صورة مشابهة لصورة الثائر الأرجنتيني (تشي غيفارا) الذي قاتل مع الثورة الكوبية وقتل على يد الجيش البوليفي عام 1967 وبعد مقتله سجي جسده على طاولة لكي تلتقط صور له وكانت عيناه المفتوحتان تحدقان في الفراغ على الكاميرا. وأشارت الصحيفة إلى أن قادة حماس احتفوا باستشهاد السنوار في ساحة القتال وبعبارات خالد مشعل «مقبلا غير مدبر ومقاتلا على الخطوط الأمامية ومتحركا بين المواقع القتالية». كما انتشرت مقاطع من قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش على مواقع التواصل الاجتماعي التي قال مستخدمون إنها تنبأت بوفاة السنوار بهذه الطريقة وهي من قصيدة «مديح الظل العالي»: «حاصر حصارك لا مفر سقطت ذراعك فالتقطها لا مفر وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر حر حر».
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
819
| 16 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
660
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.
642
| 14 ديسمبر 2025