رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جاءوا مؤخرا يرتدون زي الدولة الإسرائيلية، يشاركون باختيار حر في العدوان على سكان غزة، إنهم المتطوعون الأمريكان الذي أسهموا في إزهاق أرواح ما لا يقل عن 633 فلسطينيا مدنيا منذ بدأت الحرب، فقد ثبت أن من بين الثلاثين إسرائيليا الذين قتلوا اثنين على الأقل يحملان الجنسية الأمريكية إضافة إلى الإسرائيلية. كيف تتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع ذلك؟ بداية، من خلال إرسال المزيد من الأمريكان. بعد أقل من 24 ساعة على الفصل الذي جرى معه في قناة فوكس نيوز، وصل وزير الخارجية الأمريكي إلى القاهرة يوم الثلاثاء، حيث عبر عن الموقف الغربي التقليدي الذي يندد بسوء سلوك حماس ويؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. قال كيري: "نحن هنا منهمكون في العمل لأن الكثير من الدم قد سفك في الجانبين". إلا أن الجملة التي أضافها بعد ذلك بصوت شاحب، وقال فيها "بما في ذلك موت مواطنين أمريكيين" هي التي أكدت واحدة من أكثر سمات النفاق التي لا يلاحظها كثير من الناس في هذا النزاع، وهي أن المواطنين الأمريكيين يشجعون بشكل منتظم على قتال واضطهاد وقتل الفلسطينيين. عليك أن تنسى كيف تحاضر أمريكا الحكومات العربية حول "ملاحقة" و "ووقف تسرب" المقاتلين العرب الأجانب إلى العراق وسوريا وأفغانستان. لن يواجه المتطوعون الأمريكان في إسرائيل ملاحقة من الـ "أف بي آي" لتعقب مسار رحلتهم من نيويورك إلى تل أبيب، ولن يخضع جيرانهم للاستجواب لفهم ما الذي حفزهم على ارتداء زي أجنبي وحمل بنادق يوجهونها نحو أشخاص لم يقابلوهم من قبل على الإطلاق. ناهيك عن أن يوضعوا على قوائم الممنوعين من السفر عبر الطيران. وبالتأكيد لا رصد للخطب التي تلقى في المعابد اليهودية أو في مؤتمرات الإيباك ما لم يكونوا ضيوفاً مدعوين للخطابة وجاء دورهم. لحسن حظ المتطوعين الأمريكان، سوف يُجنبون الإذلال الذي يتعرض له المسلمون الأمريكان بسبب عمليات الرقابة والتجسس التي تقوم بها الـ "إف بي آي"، كما وثقه برنامج وثائقي أنتجته الجزيرة وعرضته مؤخراً، بهدف استدراج المواطنين الأمريكان لقتل أو جرح أشخاص آخرين ممن يعتبرون "أشخاصاً سيئين". لا، هناك فقط ثلاث طرق قد يقع من خلالها المقاتلون الأجانب من حملة الجنسية الأمريكية الإسرائيلية المزدوجة في مخالفة القانون.. أما الأولى، فهي أن ينتهي بهم المطاف وقد انضموا إلى الجانب "الخطأ"، وهو هنا محدد مسبقاً بأنه حماس. فالولايات المتحدة الأمريكية تصنف هذه المجموعة المقاومة على أنها منظمة إرهابية أجنبية وتفرض عليها عقوبات بحجة أنها "تهدد بإعاقة عملية السلام في الشرق الأوسط". قد يجد البعض ذلك في غاية الغرابة، خاصة أن نتنياهو أسهم بأكثر من نصيبه في قتل نفس عملية السلام هذه. ومتى كانت المرة الأخيرة التي شاهدت فيها أي مواطن أمريكي يحاكم بتهمة دعم مستوطنين إسرائيليين يمارسون العنف (أو بتهمة أنه واحد منهم) أو بتهمة الانتماء إلى جماعات متطرفة مثل مجموعة كاهانا حي؟). من الناحية النظرية، فإنه يمكن أن يتعرض الشخص لعقوبات جنائية أو إلى فقدان جنسيته إذا كان يخدم في الجيش الإسرائيلي وثبت أنه كان ينوي التخلي عن الجنسية الأمريكية بمجرد الالتحاق بالجيش الإسرائيلي. ومن تسول له نفسه من المقاتلين حاملي الجنسية المزدوجة الأمريكية والإسرائيلية مهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر فقد توجه له تهمة الخيانة. وأخيراً، لا يزال قتل مواطن أمريكي خارج الولايات المتحدة جناية فيدرالية. رغم أنه من المبكر جداً معرفة ما إذا كان المقاتلان حاملا الجنسية الأمريكية الإسرائيلية المزدوجة اللذان قتلا في الحرب على غزة شون كارميلي وماكس ستاينبيرغ، قد قتلا أي مواطنين يحملون الجنسية الأمريكية الفلسطينية المزدوجة أثناء مشاركتهما في القتال في غزة. بإمكانك أن تطمئن وترتاح لأنه لن يجري أي تحقيق. بالفعل، يمكن للإنسان أن يخلص إلى أن هذين الأمريكيين الجهاديين (أو ليس هذا ما نطلقه في العادة على كل من يتوجهون للمشاركة في القتال في ذلك الجزء من العالم؟) سيكونان في أمان من أي مساءلة أو محاكمة. لعلهما لم يفكرا إطلاقاً في التخلي عن جوازي سفرهما حينما حملا السلاح ضمن الجيش الإسرائيلي. فقط عليك أن تسأل رحم إيمانيويل، الذي تطوع مرتين للخدمة في قوات الدفاع الإسرائيلي، ثم أصبح فيما بعد كبير موظفي البيت الأبيض لدى الرئيس أوباما ثم عمدة شيكاغو فيما بعد. أي انحراف هذا؟ لو بقي كارميلي وستاينبيرغ على قيد الحياة لربما أصبحا دبلوماسيين أمريكيين كبيرين مجازين أمنياً أو لربما أصبحا حتى وسيطين في نفس الصراع الذي كانا في يوم من الأيام قد شاركا في القتال فيه. عليك فقط أن تتأمل في قصة مارتين إنديك، مبعوث أمريكا للسلام في الشرق الأوسط، والذي كان نفسه متطوعاً (وإن كان في مجال مدني) أثناء حرب إسرائيل عام 1973، ثم أصبح بعد ذلك مسؤولا رفيعا في واحدة من أهم مؤسسات اللوبي الصهيوني في أمريكا، إيباك. ولكن ثمة سؤال آخر.. هل كان كارميلي وستاينبيرغ يقاتلان ضد الولايات المتحدة وبذلك ارتكبا عملاً خيانياً؟ سيقول المدافعون عنهما "طبعاً لا". ولكن، إذا ما تأملت في خطاب القاعدة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وخطاب ما لا يحصى من المجموعات التي انبثقت عنها منذ ذلك الوقت، لوجدت أن الشكوى الأساسية والعامل الأهم في تجنيد الأشخاص وحثهم على مهاجمة وقتل الأمريكيين كان باستمرار الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، دبلوماسياً ومالياً، ونعم عسكرياً أيضاً. لا يشكن أحد بينما تبيد آلة القتل النتنياهوية الأطفال الفلسطينيين وهم يلعبون الكرة على شواطئ غزة، في أن هناك من العرب والمسلمين من يرغب في الانتقام من إسرائيل ومن الولايات المتحدة لهؤلاء الضحايا. قتال أشخاص مثل كارميلي وستاينبيرغ إلى جانب إسرائيل يعمق الغضب وهذا بدوره سوف يحرض العرب والمسلمين على كراهية الأمريكان، الأمر الذي سيتهدد جميع المواطنين سواء كانوا في سفر خارج الولايات المتحدة أم كانوا يسيرون آمنين في شوارعها. لو كنا في عالم يسوده العقل والحكمة لبادرت الولايات المتحدة إلى عمل شيء بشأن ذلك. ولكن في أمريكا التي نعرف اليوم، يعتبر دعم إسرائيل في اضطهادها للفلسطينيين أمراً مؤسسياً. لن نشهد إغلاقاً للجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التي تتخذ من أمريكا مقراً لها وتجمع الأموال المعفية من الضرائب لصالح المستوطنين الإسرائيليين. وستستمر مصلحة الضرائب في السماح بهذا التمويل لأعمال عدائية في مخالفة صريحة للسياسة الأمريكية المقررة (ولعل الحجة، كما تعرفون، هي أن من تمارس ضدهم هذه الأعمال العدائية "يشكلون عقبة في طريق السلام"). لن تبذل جهودا "لنزع التطرف" من الأمريكان الذين يخرجون للقتال إلى جانب إسرائيل حينما يعودون إلى وطنهم. بل على العكس من ذلك، قد تجدهم يشقون طريقهم ليصبحوا من كبار الموظفين أو مسؤولين منتخبين في مواقع النفوذ التي سيتمكنون من خلالها من بث انحيازهم في قلب السياسات الأمريكية. وهذا بالضبط ما قصده الوزير جون كيري، حينما أشاد بقتلى الحرب الإسرائيلية من الأمريكان: فالنظام الذي يعتبر هو جزء لا يتجزأ منه يحزن عليهم ويأسى. ولكن هذا لا يعني أن أمريكا أو الأمريكان هم الذين يحزنون أو يأسون. كلنا رجاء أن يتمكن الآخرون من التمييز بين النظام والشعب في أمريكا.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
207
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
774
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
153
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5898
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3717
| 21 أكتوبر 2025