رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

342

سعدية مفرح

معارك الكلام الميتة

28 يوليو 2025 , 12:34ص

لستُ من أنصار الهروب، لكنني أيضاً لا أؤمن بأن كل معركة تستحق عناء الدخول فيها. وهذا ينطبق على المعارك الحقيقية ومعارك الكلام أيضا! 

هناك نوع من النقاشات يولد ميتًا، لا لأن الفكرة فاسدة، بل لأن النية فاسدة. وهنا، لا يعود النقاش سبيلاً للفهم، بل يصبح ملعبًا للكيد والمراوغة واستعراض البلاغة على جثث المعاني. 

والمرء، إن أراد أن يصون طمأنينته، عليه أن يتقن فن الانسحاب المهذب، لا بالصمت وحده، بل بما هو أبلغ من الصمت: جملة طيبة، تخمد نار السجال كما تخمد قطرة ماء جمرًا يتوهج.

كم مرة قلت فيها لشخص كان على وشك الانفجار؛ “أقدّر وجهة نظرك، وأتمنى لك التوفيق”، ورأيت كيف ارتبك؟ وكيف تلعثم؟ وكيف أعاد حساباته فجأة؟ 

اللطف لا يعني الضعف، كما أن الرد العنيف لا يعني القوة، وبين الردود يوجد دائماً خيار ثالث، الخيار الذي لا يلغي ذاتك، لكنه لا يحوّلك إلى مرآة لغضب الآخر. هو خيار النضج، حين يكبر المرء كفاية ليرى أن ليس كل قذيفة تحتاج إلى درع، فبعض القذائف تسقط من تلقاء ذاتها حين لا تجد أرضًا تتلقى ارتطامها.

واللطف ليس مناورة ولا تجميلاً للموقف. اللطف سلوك وجودي، يتطلّب وعيًا عميقًا بالكرامة الشخصية. أن تقول شيئًا نبيلاً في حضرة من يستدرجك للسقوط، يعني أنك اخترت الوقوف على ضفة أخرى، حيث لا يعلو الصوت بل يعلو المعنى. وقد يبدو هذا خيارًا صعبًا، خصوصًا حين يكون الآخر متسلحًا بكل قبح الممكنات، لكنّك، حين تقول عبارة تفتح باباً بدلاً من أن تُغلقه، فإنك لا تُنقذ نفسك فقط من الغرق، بل تنقذ الآخر أحيانًا من نفسه.

كم من النقاشات لم تكن بحاجة سوى لكلمة لطيفة تنهيها قبل أن تتورم، وكم من الخصومات الطويلة بدأت من جملة لم تُقَل، أو من ابتسامة بخلنا بها، أو من نبرة ساخرة حسبناها دعابة فاستقبلها الآخر طعنة. لا أقول إن المرء مسؤول دومًا عن نوايا الناس، لكنه مسؤول تمامًا عن شكل حضوره في العالم، وعن اللغة التي يختار أن يبلّغ بها وجوده.

في كثير من الأحيان، يُساء فهم اللطف، لأنه يربك من لا يجيده. فبعضهم يظنه ضعفًا أو تواطؤًا أو تنازلًا عن الحق، لكنه في حقيقته قدرة على التحرر من القيد الذي يفرضه الآخر، وعلى ألا تكون ردّ فعل، وأن تكون فاعلاً في طريقتك بالرد، حتى لو اخترت ألا ترد كما يتوقع الآخر. وهذا، في ذاته، فعل جمالي وإنساني عميق، يُذكّرنا بأن الجدال ليس إلا حقل ألغام لمن لا يعرف أين يضع قدميه، وأن العبارة اللطيفة قد تكون أحيانًا عصا موسى التي تفرق بحر الغضب إلى ضفّتين: ضفّة هدوئك، وضفّة فيها خيبة من حاول إشعالك.

تعلّمت، متأخرًة ربما، أن الأسلوب أحيانًا أبلغ من المحتوى، وأن الطريقة التي تقول بها ما تقول، قد تغيّر مسار الحوار بأكمله. وليس أجمل من أن تقول شيئًا ناعمًا في لحظة صلبة، شيئًا يُظهر أنك قادر على الحدة، لكنك آثرت ألا تستخدمها. ففي النهاية، نحن لا نُعرَف فقط بما نقوله، بل بما اخترنا ألا نقوله حين كان بمقدورنا أن نقول كل شيء.

اللطف ليس ترفًا سلوكيًا، بل هو فعل مقاومة في زمن التعصب، وهو الموقف الأعلى حين يتهاوى الآخرون إلى درك النزق. هو سلاحك حين تريد أن تربح نفسك لا خصمك، أن تنجو بسلامك الداخلي لا أن تقتل سلام الآخر. 

وإذا كان هناك من يسأل عن حسم النقاشات العقيمة، فلا أنصح بأن ننتصر فيها، بل أن نتجاوزها، بكلمة جميلة، تريح الآخر أمامنا وتشعره بالرضا وربما بالخجل ولو مؤقتاً.. !

مساحة إعلانية