رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بادئ ذي بدء إذا ما كان هناك من كلمة وأنا ابدأ صفحة جديدة في مسيرتي الصحفية، فانها بالتأكيد كلمة شكر وتقدير إلى سعادة الشيخ ثاني بن عبدالله آل ثاني رئيس مجلس إدارة دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع على ما وجدته من دعم ومساندة، وحرص على اسناد المناصب القيادية في «الشرق» للكوادر القطرية، وهو أمر يحسب لسعادته، وخطوات تسجل له في ظل هذا الاستقطاب الكبير لهذه الكوادر.
ويخطو الخطوة ذاتها سعادة الشيخ خالد بن ثاني آل ثاني العضو المنتدب بـ «الشرق»، الذي يقف داعما من أجل الارتقاء بهذه الدار في قطاعاتها المختلفة، والعمل على تطوير الأداء بما يواكب المرحلة المهمة التي تعيشها «الشرق»، وهو من أجل ذلك لا يبخل بشىء يمكن ان يعزز بشكل أكبر الحضور الفاعل لـ «الشرق» على مختلف الاصعدة.
وتترجم توجيهات رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب على أرض الواقع قيادة جماعية، وفريق عمل متكاملاً، يديره الأخ الفاضل الأستاذ عباس الملا المدير العام، والأخ الفاضل الأستاذ عبداللطيف بن عبدالله آل محمود رئيس التحرير، اللذان يسهران على إدارة دفة العمل بكل تفان واخلاص، فالإدارة الجماعية هي سمة رئيسية، وركيزة اساسية، لتطوير العمل .
وقد وجدت من الأستاذ عباس الملا والأستاذ عبداللطيف آل محمود كل الدعم في سبيل انجاح مهمتي الجديدة، مع تعاون كامل من كافة الزملاء بـ«الشرق»، الذين بالتأكيد يشكلون العامل الأساسي في تطور الجريدة ورقيها.
وانا ابدأ اليوم مرحلتي الجديدة من عمري الصحفي، اضع نصب عيني مجموعة من الأولويات التي اسعى جاهدا خلال وجودي في هذا المنصب لتحقيقها بالتعاون مع كل قارئ وقارئة، فهما المرآة الحقيقية لمدى نجاحنا.
تشكل قضايا الوطن والمواطنين صدارة هذه الاولويات، وهو امر احمله اينما حللت، واينما رست سفينتي الصحفية، وهم يشغلني في كل كتاباتي، واعمل ليل نهار من خلال التواصل معكم ان نقدمها ونعرضها أمام الرأي العام بكل موضوعية ومصداقية، سعيا لايجاد الحلول المناسبة لها وفق رؤية واضحة.
«الشرق» هي صحيفة كل مواطن، وكل مواطنة، وكل مقيم، وكل قارئ، تفتح صفحاتها من أجل كل فرد في هذا المجتمع المعطاء، ونحن ما وجدنا في هذا المكان إلا من أجلكم، ومن أجل ايصال رسائلكم، فليس هناك حاجز يفصل بيننا، فنحن نمد أيادينا، ونضع كافة إمكاناتنا تحت تصرف كل قارئ، ونسعد أكثر عندما يكون التواصل قائما، سواء كان ذلك على ـ الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الصحي أو التربوي.. أو الخدمات الأخرى، ونعمل جاهدين ـ من خلال «الشرق» ـ ان نكون لسانكم الذي تتحدثون به، وعينكم التي تبصرون بها، في سبيل الارتقاء بالخدمات المقدمة في مجتمعنا .
هذا بالتأكيد لا يعني اننا نركز على السلبيات على حساب الايجابيات القائمة في مجتمعنا، فنحن ولله الحمد وبفضل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب السمو امير البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، وسمو ولي العهد الامين، ننعم بخير وفير، وخدمات تقدم على كل صعيد، عبر مؤسسات تؤدي دورها في المجتمع، الا ان هناك جوانب قصور تعتري خدمات تقدمها بعض الوزارات والمؤسسات، وهو امر طبيعي ــ شأننا شأن بقية المجتمعات ــ وهو ما ينبغي التنبيه اليه، بهدف معالجته، وتلافيه، وتقويم أي خطأ قد يكون قائما، فنحن نعد مرآة يمكن لمؤسساتنا ان ترى فيها خدماتها ما إذا كانت تلبي الطموحات أو يشوبها قصور وسلبيات .
نعم يحق للمواطن ان ينادي بتطوير الخدمات، وان يتحدث عن السلبيات، وان يعرض مشاكله في الاعلام إذا ما عجز عن ايجاد الحلول المناسبة لها عبر القنوات الرسمية في الوزارات، ويجب على هذه الجهات ان تتفهم ذلك، والا تعتقد ان وسائل الاعلام تستهدفها " لغاية في نفس يعقوب "، بقدر ما يكون الاستهداف لجوانب القصور والسلبيات، وإذا ما تم تجاوز ذلك، وتم ايجاد الحلول لها، فان الاشادة ستحل مكان الانتقاد.
نحن ليست لدينا مواقف مسبقة من وزاراتنا المختلفة، بل على العكس تربطنا بالجميع علاقات اكثر من طيبة، وتواصل في مناسبات شتى، وتعاون نسعى إلى تدعيمه وتفعيله بصورة اكبر من أجل مجتمعنا، فنحن جميعنا في مركب واحد، ولا يعني انه في حالة توجيه الانتقاد إلى مؤسسة ما، اننا ننتقد شخصية المسؤول أو الوزير، انما هدفنا في نهاية المطاف هو تصحيح ما نعتقد انه امر سلبي، لا نرضى ان نشاهده في مجتمعنا، ونعتقد ان المسؤول أو الوزير لايرضى ان يرى مثل هذه السلبيات.
لذلك فان الرهان عادة ما ينصب على قضايا المواطنين، والقضايا الاجتماعية التي عادة تشكل عصب الصحيفة، ونحن في سبيل ذلك سنخصص صفحات اكثر من أجل تناول قضايا الوطن والمواطنين بكل موضوعية ومصداقية وجرأة، وهو ما عرفت به «الشرق» خلال مسيرتها الصحفية، وسنعزز من التواصل معكم، وسنفتح قلوبنا وعقولنا قبل صفحاتنا، من أجل ان نتواصل معكم، وما نأمله ان نجد ذلك منكم، وأنا على ثقة انكم احرص منا على التعاون والتواصل فيما بيننا.
الاولوية الثانية التي احملها في حقيبتي منذ التحاقي بعالم الصحافة عام 1990 ـ وسأظل اواصل حملها ـ هي الدعوة لتعزيز حضور الكوادر القطرية في مؤسساتنا الصحفية.
وحقيقة حتى أكون صادقا معكم فان هذا الهم لا احمله وحدي هنا، بل ان المؤسسة بدءا من رئيس مجلس الإدارة، مرورا بالعضو المنتدب، والمدير العام، ورئيس التحرير، وانتهاء برؤساء الاقسام المختلفة، جميعهم يرحبون بالكوادر القطرية ــ شبابا وفتيات ــ ممن لديهم الرغبة والموهبة لخوض غمار العمل الصحفي الممتع، ويفتحون أبواب «الشرق» لاحتضانهم ودعمهم، وتوفير المناخ المناسب لصقل مواهبهم، وتطوير قدراتهم، والارتقاء بهم نحو الافضل، بما يخدم وطننا، وقضايا المواطنين وهذه دعوة مفتوحة اوجهها لكل شاب .. لكل فتاة .. لكل من يجد في نفسه المقدرة والرغبة في الكتابة ان يأتي الينا، فنحن ابوابنا مفتوحة، وامانة فان الجميع وعلى رأسهم سعادة الشيخ ثاني بن عبدالله آل ثاني، يؤكدون دائما على دعم الكوادر القطرية، والعمل على تأهيلها، وافساح المجال امامها، واتاحة الفرصة لها، لشغل المناصب القيادية طالما أنها جديرة بهذه المناصب، وقادرة على إدارة دفة العمل.
ان المسؤولية التي اتحملها اليوم هي امانة كبرى، وهي تكليف وليس تشريفاً، سأعمل جاهداً من خلال كل قارئ، وبالتعاون مع زملائي بالدار، ان اكون عند حسن الظن، وادعو الله ان اوفق في جهدي، ولكن كما يقولون فإن اليد الواحدة لا تصفق.
هناك أولويات أخرى، وقضايا عديدة، ولكن لا أريد الاطالة عليكم، فلقاءاتنا عبر صحيفتكم «الشرق» ستتواصل بإذن الله، وستكونون انتم نصب اعيننا دائماً، ومحور القضايا التي سنطرحها باستمرار.
وإذا ما كان هناك من كلمة أخيرة فإنني اشكر سعادة الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني رئيس مجلس إدارة «الوطن»، والسيد عادل علي بن علي العضو المنتدب، والزميل أحمد علي المدير العام وجميع الزملاء بالوطن، على تعاونهم معي خلال فترة عملي معهم.
وعلى بركة الله ابدأ مشواري...
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6312
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3801
| 21 أكتوبر 2025