رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
من واجبات الراعي العام في الأمة
بم يستوجب الحاكم الطاعة والمحبة والنصرة والنصح؟
الوظائف السياسية
إن الأمة اليوم تتطلع إلى قيادات سياسية تعفُّ عن أموالها، وتكفُّ عن دمائها، وتلمُّ شعثها، وتوحد كلمتها، وتحسن سياستها، وتحررها من عبوديتها، بعد أن أترعت الدماء على أيدي الطغاة، وأهدرت الأموال، وانتهكت الأعراض، وامتلأت السجون بالمظلومين، ببغي المجرمين
الوظائف السياسية: بما أن الخليفة كان يجمع أحياناً بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فإن وظائفه السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء. وقد أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي:
أولا: حماية البيضة(الوطن)، - (وَالذَّبُّ عَنْ الْحَوْزَةِ) ؛ أَيْ: حِفْظُ الرَّعِيَّةِ(وَإِنْصَافُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ)وهو ما يعرف حديثا بالمحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة-والذّبّ عن الحرمات مِنْ عَدُوٍّ فِي الدِّينِ أَوْ بَاغِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أو أرض أو عرض.ليتصرّف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. وهذا ما يقوم به أفراد الشرطة –ومجندو وزارة الداخلية –الآن.
ثانيا: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ،- وهو ما يعرف حديثا بالدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء- حَتَّى لاَ يَظْفَرَ الأْعْدَاءُ بِثُغْرَةٍ يَنْتَهِكُونَ بِهَا مُحَرَّمًا، وَيَسْفِكُونَ فِيهَا دَمًا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ. وهذا ما يقوم به أفراد الجيش أو الدفاع – ومجندو وزارة الدفاع أو الحربية أو القوات المسلحة بكافة أفرعها وتخصصاتها-الآن.
ثالثا: الإشراف على الأمور العامة بنفسه- أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ - أَوْ بِأَعْوَانِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ مُشَارَفَةَ الأْمُورِ، وَتَصَفُّحَ الأْحْوَال لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الأْمَّةِ -، وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح. وقد قال تعالى: "يا داوُدُ، إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ". فلم يقتصر الله تعالى على التفويض دون المباشرة، بل أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته" ولقد عِيب على بعض الشعراء، وصْفه الخليفة المأمون بالتفرغ للعبادة والانشغال بها عن متابعة أمور رعيته، وهذا هو محرابه الذي تعبده الله تعالى به فعن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: إني بباب المأمون إذ خرج عبد الله بن السمط، فقال لي: علمت أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر! قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: أسمعته الساعة بيتا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلا، فنظر إلى نظرا شزرا كاد يصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا.. بالدّين، والناس بالدنيا مشاغيل
قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ وقيل إنه قال له: مازدته على أن وصفته بصفة عجوز فى يدها مسباحها؛ فهلا قلت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو فى الدنيا مضيع نصيبه.. ولا عرض الدّنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أنني أخطأت
رابعا: إقامة العدل بين الناس قال تعالى:" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "" قال تعالى" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً "هذا وإقامة العدل يتمثل في أمرين:
1- النظر في المظالم وتنفيذ الأحكام، بين المتشاجرين، وقطع الخصام، بين المتنازعين، بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَاعْتِمَادِ النَّصَفَةِ فِي فَصْلِهَا. حتّى تعمّ النّصفة فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم. قال تعالى:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".
(لَو أنصف النَّاس استراح القَاضِي - وَبَات كلُّ عَن أَخِيه رَاض)
2- إقامة الحدود مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ فِيهَا، وَلَا تَقْصِيرٍ عَنْهَا. لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك.ويكون الجميع أمام القانون والشريعة سواء، في الصحيح، عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟" ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
خامسا: الشؤون المالية والإدارية
1- في الشؤون المالية : تقدير العطاء وما يُستحقّ في بيت المال وهذا يقرب مما يعرف في الدول الحديثة (بالْمِيزَانِيَّةُ الْعَامَّةُ) للدولة وإجراء الموازنة بين إيرادتها ونفقاتها مما يحقق توازنًا للميزانية من غير سرف ولا تقتير، لأن السرف قد يؤدي إلى التضخم والافتقار، والتقتير قد يؤدي إلى ظلم الرعية - ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير؛، وذلك كله مما تحرمه الشريعة التي هو منوط بحراستها.
وتحديد الأجور بحديها الأدنى والأعلى
2- في الشؤون الإدارية: تعيين الموظفين: استكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء، فيما يفوّضه [إليهم من الأعمال] ويكله إليهم من الأحوال ويَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيهَا، وَالْأَمَانَةِ عَلَيْهَا. لتكون الأعمال بالكفاة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
وتَعْيِينُ الْوُزَرَاءِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي الأْعْمَال الْعَامَّةِ لأِنَّهُمْ يُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ الأْمُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وتَعْيِينُ الأُمَرَاءِ (الْمُحَافِظِينَ) لِلأْقَالِيمِ، وَوِلاَيَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، لأِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الأْعْمَال عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأْمُورِ.هذا ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة متضافرة في تحديد المؤهلات التي بموجبها يتم التعيين لشغل مختلف الوظائف، ومن ذلك قوله تعالى على لسان ابنة العبد الصالح لتوظيف كليم الله موسي عليه السلام: "يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وقول الصديق يوسف عليه السلام لملك مصر" ..اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ " وقول جند سليمان عليه السلام له عن عرش بلقيس " قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ".
وقوله تعالى "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ "وقال ملك مصر ليوسف عليه السلام "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ " ومما لا شك أن أعلي الوظائف مقاما، وأجلها احتراما وظائف الدعاة وحملة الرسالات، وأصحاب الدعوات فجعل الله تعالى على رأس أوصاف القائمين بها الأمانة فما خلا رسول من هذه الصفة واقرأ قول كل رسول إلى قومه – عليهم السلام جميعا "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ".
هذه التعيينات بتلك المواصفات، توظيفا للكفاءات، واستثمارا للخبرات، وتسخيرا لكافة القوى والقدرات لصالح الأمة، أما من ليس لديهم قدرة على العمل لعجز أو كِبر أو عاهة أو مرض فلا بد من تدبير وتأمين معيشة كريمة لهم تحفظ ماء وجوههم ؛ لا يغفل عنهم الوالي ولا يلهو، ولا ينشغل بعبادة ولا لذة، وكيف وليس مغفولا عنه في تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير "قَالَ أَسْلَمُ: وَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا نَارٌ تَسَعَّرُ. فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِمْ. فَهَرْوَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ مَعَهَا صِبْيَانٌ لَهَا وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى نَارٍ وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ. فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ. وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَصْحَابَ النَّارِ. قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. قَالَ: أَدْنُوا؟ قَالَتْ: ادْنُ بِخَيْرٍ أَوْ دَعْ. فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ. قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتْ: [مِنْ] الْجُوعِ. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟ قَالَتْ: مَا لِي مَا أُسْكِتُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا، فَأَنَا أُعَلِّلُهُمْ وَأُوهِمُهُمْ أَنِّي أُصْلِحُ لَهُمْ شَيْئًا حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ! قَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ، مَا يُدْرِي بِكُمْ عُمَرَ؟ قَالَتْ: يَتَوَلَّى أَمْرَنَا وَيَغْفُلُ عَنَّا. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا. فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلًا فِيهِ كُبَّةُ شَحْمٍ فَقَالَ: احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي. قَالَ أَسْلَمُ: فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. فَقَالَ آخِرَ ذَلِكَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أُمَّ لَكَ! فَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ نُهَرْوِلُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئًا فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: ذُرِّي عَلَيَّ وَأَنَا أُحَرِّكُ لَكِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ، وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الدُّخَانِ مِنْ خَلَلِ لِحْيَتِهِ حَتَّى أَنْضَجَ ثُمَّ أَنْزَلَ الْقِدْرَ، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمِيهِمْ وَأَنَا أُسَطِّحُ لَكِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَلَّى عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَيَقُولُ: قُولِي خَيْرًا، فَإِنَّكِ إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدْتِنِي هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -! ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا وَرَبَضَ لَا يُكَلِّمُنِي حَتَّى رَأَى الصِّبْيَةَ يَضْحَكُونَ وَيَصْطَرِعُونَ، ثُمَّ نَامُوا وَهَدَأُوا، فَقَامَ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، الْجُوعُ أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ "وَفِي الأْثَرِ الصَّحِيحِ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأْمِيرِ خَيْرًا جَعَل لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَل لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ: إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سادسا: مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ والاختصاص:
قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَمُشَاوَرَةُ وُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال فِيمَا يَفْعَلُونَ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ وَعِمَارَتِهَا .
وَتُعْتَبَرُ الْمُشَاوَرَةُ مَبْدَأً مِنْ أَهَمِّ الْمَبَادِئِ الإْسْلاَمِيَّةِ، وَقَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ الْقَوَاعِدِ الأْسَاسِيَّةِ فِي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ جَاءَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الشُّورَى صَرِيحَةً فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي آيَتَيْنِ مِنْهُ الأْولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأْمْرِ}.
فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة – رئيس الدولة - من التدابير مايحقق سعادة الأمة بشرطين:
الأول ـ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن أو السنة أو الإجماع.
الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، على وفق ما بينه علماء أصول الفقه، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة وتوابعها: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فَإِذَا فَعَلَ مَنْ أَفْضَى إلَيْهِ سُلْطَانُ الْأُمَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الواجبات التي ذكرنا في الحلقة السابقة والتي كانت بعنوان "دعوة إلى أول رئيس منتخب لأرض الكنانة" وما تضمنه مقالنا هذا كَانَ مُؤَدِّيًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رعيته، مُسْتَوْجِبًا لِطَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ، مُسْتَحِقًّا لِصِدْقِ مَيْلِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ. وَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّهَا وَوَاجِبِهَا، كَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا ثُمَّ هُوَ مِنْ الرَّعِيَّةِ عَلَى اسْتِبْطَانِ مَعْصِيَةٍ وَمَقْتٍ يَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِإِظْهَارِهِمَا وَيَتَوَقَّعُونَ الدَّوَائِرَ لِإِعْلَانِهِمَا. هذا وللحديث بقية بحول الله وقوته، ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل.
هوامش:
الأحكام السلطانية للماوردي: ص14، والسلطات الثلاث للطماوي: ص278 ومابعدها.
الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 12، والأحكام السلطانية للماوردي ص 16 ص: 26)
رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي: 213/ 12).
[صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 9/ 372]
الصناعتين: الكتابة والشعر (ص: 119)
العقد الفريد (6/ 214)
النساء:58
الحجرات:9
صحيح مسلم كتاب الحدود. باب قطع السَّارق الشَّريف وغيره، والنَّهي عن الشَّفاعة في الحدود.
الأحكام السلطانية للماوردي ص 65، 108، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 297، 308، وشرح المنهاج 4 / 295، والمغني لابن قدامة 9 / 38، 106، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 78، 92
السياسة الشرعية - جامعة المدينة (ص: 563)
القصص:26
يوسف55
النمل:39
التكوير:19-21
يوسف54
الشعراء:107+125+143+162
تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (4/ 206) الكامل في التاريخ (2/ 434)
حديث: " إذا أراد الله بالأمير خيرا.. " أخرجه أبو داود (3 / 345 - ط عزت عبيد دعاس) وجود إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 317 - ط الرسالة)
تفسير القرطبي 4 / 250 - 251
آل عمران / 159
راجع الموافقات للشاطبي: 10/ 2، ط التجارية، الإحكام للآمدي: 48/ 3، ط صبيح، المستصفى للغزالي: 140/ 1، ط التجارية.
الدوحة مركز عالمي لدعم جهود مكافحة الفساد
جاءت استضافة الدوحة لأعمال مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في دورته الحادية عشرة، بحضور... اقرأ المزيد
96
| 16 ديسمبر 2025
القوة الناعمة للصين.. التطور والتحديات
مع بداية الصحوة القوية لما يسمى (الصعود الصيني) في أوائل الألفينات، بدأت الصين في إيلاء مزيد من الاهتمام... اقرأ المزيد
183
| 16 ديسمبر 2025
الفجوة الصامتة بين التعليم والمستقبل
لا يزال التعليم في كثير من مدارسنا وجامعاتنا قائمًا على نموذج قديم، جوهره الحفظ واسترجاع المعلومة، لا فهمها... اقرأ المزيد
339
| 16 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1245
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
804
| 10 ديسمبر 2025