رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إحسان الفقيه

إحسان الفقيه

مساحة إعلانية

مقالات

486

إحسان الفقيه

المجتمع بين التراحم والتعاقد

30 نوفمبر 2025 , 05:52ص

يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد حواراته، أنه في طفولته طرقت فتاة بابهم تحمل سلة بها أشياء ترغب في بيعها، فصرفها لعلمه أن مثل هذه الأشياء لا يحتاجونها، فزجرته والدته، فأخذت السلة من الفتاة بثمن أكثر بكثير من قيمتها المستحقة، فأخبرته أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذين ماتوا.

لقد رسّخت هذه القصة في وجدان المسيري فكرة المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي، وصارت هذه المقولة مكونًا أساسيًا في فكره، ذلك أن فعل الأم كان في حقيقته صدقة تعبر عن التراحم، وأما كونها أخذت منها السلة رغم عدم احتياجها لها، فهو غطاء التعاقد الذي يحفظ كرامة هذه الفتاة، ويجنبها الشعور بالتسوّل.

المجتمع التعاقدي يستند إلى القوانين المكتوبة التي تحقق المصلحة الفردية والجماعية، وتكون واضحة ومحددة، وهذا ما أخذه شكل المجتمعات الحديثة، فتتعامل وفقا لثنائية الحقوق والواجبات.

بينما المجتمع التراحمي يستند إلى القيم الدينية والأخلاقية، فهي على الرغم من وجود قانون يحكمها وينظم العلاقات بين أفرادها، إلا أنه ليس المحرك الوحيد لسلوكيات الأفراد في التعامل مع الآخرين، إذ هناك القيم والأعراف والتقاليد والروابط العائلية والقبلية ونحو ذلك، وهي ليست قوانين مكتوبة بل تستنبطها المجتمعات كثقافة ووعي وميراث قيمي وترجمة لما ينبغي أن تكون عليه المشاعر الإنسانية.

هذا التصنيف يمثل حالة التباين بين المادية والروحية، بين النص القانوني المجرد وروح النص القانوني، وإنك لترى مثلا في أوروبا تأثير الأوضاع التعاقدية - في الأسر غير المحافظة- على الفتاة التي تكبر وتصبح مسؤولة عن نفسها وتنفصل عن الأسرة وترتبط بها عبر الزيارات والمناسبات، فالأسرة لم تعد ملزمة بها.

لكن في الأوضاع التراحمية في المجتمعات التقليدية في الوطن العربي والإسلامي، تجد الفتاة الرعاية والكفالة الكاملة قبل زواجها، بل حتى بعد زواجها تصبح الأسرة ملاذا تأوي إليه الابنة في أي وقت.

في المجتمع التراحمي يُنصر المظلوم المستجير لا لشيء إلا بدافع المروءة والشهامة حتى وإن تحمل المجير ضررًا جراء إجارته، بينما في المجتمع التعاقدي يفعل المجير فقط إذا كانت الإجارة تحقق مصالحه وإلا فلا.

في المجتمع التراحمي يستشعر الجار المسؤولية الاجتماعية تجاه جيرانه، فيتفقد أحوالهم، يعيدهم في المرض، ويشاركهم الأفراح والأتراح، ويطعمهم أحيانا مما يطعم، بينما في المجتمع التعاقدي المبني على نصوص القوانين المجردة، يتعامل الجار مع جاره على أساس تمسكه بحقوقه المتعلقة بكفالة عدم إزعاجه من قبل الجار بالأصوات العالية، أو عدم وقوف سيارة الجار أمام منزله أو في طريقه ونحو ذلك.

ولا شك أن مجتمعاتنا تأثرت نسبيًا بطوفان العولمة ومخرجات الحداثة التي طغت فيها المادة على الروح، حيث طغت لغة المصالح والنفعية في المعاملات على قيم التسامح والإيثار والتضحية والبذل ونفع الآخرين بلا شرط أو مقابل، حتى أصبح في عرف السوق أن التاجر الناجح هو الذي يخلّي العاطفة والإنسانية في تعاملاته التجارية والمالية.

وصرنا نرى من ينفق الملايين على حملاته الدعائية بينما يضن بالقرش على المحتاج، بل كثير منهم إذا أقدم على البذل والصدقات فعلها لتخدم فقط الدعاية التي يقوم بها لنفسه أو لمؤسسته.

المجتمع الذي يوصف بالصحة هو ذلك المجتمع المازج بين التعاقد كدستور منظم، وبين التراحم الذي يتخطى حدود الحقوق والواجبات، ويترجم المنظومة الأخلاقية والقيمية والإنسانية، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فهو أبلغ وأوقع تعبير عن المجتمع التراحمي، الذي يرتقي فيه الإنسان ويتعامل بما يليق بهذه الخلقة التي كرمها الله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

اقرأ المزيد

alsharq التزام ثابت بدعم الشعب الفلسطيني في مواجهة التحديات الإنسانية

جاءت إشادة منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، الذي أجرى جولة في أحد مراكز توزيع المساعدات... اقرأ المزيد

66

| 01 ديسمبر 2025

alsharq المنطق والتفكير المنهجي وبناء الوعي المعاصر

من العلوم المهمة التي يتراجع الاهتمام بها مع وجود حاجة ماسة في ميدان التعليم بشكل خاص، ومفيدة في... اقرأ المزيد

87

| 01 ديسمبر 2025

alsharq زيارة البابا إلى الشرق الأوسط والعلاقات الكاثوليكية ـــ الإسلامية

في مايو 2025، قام البابا ليو الرابع عشر، بعد تولّيه قيادة الفاتيكان ورئاسة العالم الكاثوليكي، بأول زيارة خارجية... اقرأ المزيد

84

| 01 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية