رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في العقود الأخيرة، أخذت الحروب شكلاً جديدًا تجاوز الميدان العسكري التقليدي إلى ساحات أكثر تعقيدًا وخفاءً. فقد أصبحت الجبهة السيبرانية إحدى أخطر جبهات الصراع بين الدول، في ظل اعتماد الأنظمة الحيوية على البنية الرقمية وترابطها العميق مع الفضاء الإلكتروني. لم تعد محطات الطاقة والمؤسسات المالية ومراكز الاتصالات أهدافًا هامشية، بل تحوّلت إلى نقاط اشتباك إستراتيجية يمكن استهدافها لتعطيل مدن، أو شلّ اقتصادات، أو إرباك حكومات بضغطة زر. وفي منطقة الشرق الأوسط، التي عرفت طويلًا الحروب التقليدية، نشهد اليوم تحولًا نوعيًا في أنماط المواجهة، تجلّى بوضوح في الحرب السيبرانية المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، والتي تمثل نموذجًا متقدمًا لهذا الطور الجديد من الصراعات.
منذ عام 2010، حين أصاب فيروس «ستاكسنت» – وهو أول سلاح سيبراني في العالم- منشأة «نطنز» النووية الإيرانية، بدأت ملامح هذه الحرب الصامتة في التبلور شيئًا فشيئًا. لم يكن الهجوم مجرد عملية اختراق عابرة، بل كان أول سلاح سيبراني يُحدث ضررًا ماديًا فعليًا في البنية التحتية لدولة ذات سيادة. وقد نُسب إلى تعاون استخباراتي بين إسرائيل والولايات المتحدة، واعتُبر إيذانًا بولادة عقيدة هجومية جديدة تُستخدم فيها التكنولوجيا لردع الخصم وإبطاء تطوره، دون إطلاق رصاصة واحدة أو إراقة نقطة دم. هكذا نشأت ما بات يُعرف بـ»العقيدة السيبرانية الإسرائيلية»، التي تمزج بين الضربات الوقائية والقدرات الاستخباراتية والعمل الميداني.
ومع التصعيد العسكري في يونيو 2025، انتقل هذا الصراع إلى مرحلة غير مسبوقة، حيث نفذت إسرائيل ضربات جوية دقيقة داخل الأراضي الإيرانية، ترافقت مع هجمات سيبرانية عطّلت أنظمة الرادار والدفاع الجوي، مما سهّل اختراق الطائرات الحربية لأجواء إيران. هذا التداخل بين الهجمات المادية والرقمية عكس إستراتيجية إسرائيلية متقدمة، توظّف التكنولوجيا كذراع موازية للعمليات العسكرية التقليدية، وتستثمر التكامل بين الأمن السيبراني والمعلوماتي والعمليات الميدانية لإضعاف الخصم من الداخل.
الرد الإيراني لم يتأخر، بل جاء مكثفًا ومتعدد الأبعاد. ففي غضون أيام، ارتفعت الأنشطة الخبيثة الموجهة ضد إسرائيل بنسبة فاقت 700 %، وفقًا لشركة «رادوير» للأمن السيبراني. الهجمات طالت بنوكًا ومؤسسات إعلامية ومنصات مالية واقتصادية رقمية، وأسفرت عن تسريب بيانات حساسة، وبث رسائل احتجاجية عبر قنوات رسمية، وسرقة ملايين الدولارات من أصول رقمية. هذا التصعيد أكد أن إيران بدورها باتت تمتلك ترسانة سيبرانية هجومية متقدمة، ترتكز على مجموعات قرصنة عالية التدريب تعرف باسم «مجموعات التهديد المستمر المتقدم» (APT)، أبرزها APT33 وAPT34 وAPT42، وهي فرق تابعة أو على صلة بالحرس الثوري الإيراني.
لكن ما يميز الإستراتيجية الإيرانية في هذا المجال، إلى جانب القدرات التقنية، هو توظيف البعد السيبراني لأغراض نفسية وسياسية، من خلال حملات تضليل تستهدف زعزعة ثقة الإسرائيليين بحكومتهم، ونشر الذعر والتشويش في أوقات الأزمات. فقد تم رصد رسائل زائفة تفيد بنقص في الوقود، أو تحذيرات وهمية من هجمات وشيكة، مصممة لتبدو صادرة عن جهات رسمية. هذه الحملات، وإن بدت بسيطة، إلا أن آثارها النفسية والاجتماعية تتجاوز أحيانًا الخسائر المادية المباشرة.
وتكشف متابعة تطور القدرات الإيرانية في المجال السيبراني عن مسار تصاعدي واضح. فبعد أن كانت الهجمات الإيرانية تقتصر على تشويش دعائي وهجمات بدائية على المواقع الإلكترونية، باتت اليوم تتسم بالدقة والسرية، باستخدام أدوات تحكم عن بُعد ووسائل تجسس متقدمة يصعب كشفها، مع استهداف ممنهج للقيادات السياسية والعسكرية والصحفيين والأكاديميين، داخل إسرائيل وخارجها. وقد كانت طهران قد أعلنت، قبيل التصعيد الأخير، امتلاكها لوثائق سرية تتعلق بالمنشآت النووية الإسرائيلية، مدعية أنها حصلت عليها إثر اختراق سيبراني استهدف مركز سوريك للأبحاث النووية. وقد عدّ خبراء الأمن في تل أبيب هذه الخطوة مؤشرًا على تطور مقلق في قدرات الفرق السيبرانية الإيرانية.
ورغم التشابه الظاهري في الأهداف، إلا أن ثمة اختلافًا جوهريًا في العقيدة السيبرانية للطرفين. فإسرائيل تعتمد على وحدات رسمية تتبع الجيش أو الموساد، تُنفذ عمليات دقيقة ومحدودة، لكنها عالية التأثير وموجهة لأهداف إستراتيجية. أما إيران فتستند إلى نهج لا مركزي، يُتيح لها استخدام مجموعات مختلفة بعضها يرتبط مباشرة بالحرس الثوري، وبعضها الآخر يعمل بصورة غير رسمية، مما يمنح طهران هامشًا واسعًا للإنكار والمناورة، ويجعل تتبعها أكثر صعوبة.
ويُضاف إلى هذا المشهد عنصر آخر يزيده تعقيدًا: تداخل مجموعات سيبرانية مؤيدة لإيران أو لفصائل المقاومة الفلسطينية أو من مناطق أخرى مثل روسيا وجنوب آسيا، تنشط تحت مسمى «منظومة مقاومة رقمية»، وتعمل بهويات متعددة يصعب حصرها أو تصنيفها بدقة. هذه البيئة «الضبابية» تجعل من الحرب السيبرانية ساحة مفتوحة بلا حدود جغرافية، ولا قواعد اشتباك واضحة.
الحرب الصامتة الدائرة اليوم بين إيران وإسرائيل ليست مجرد منافسة رقمية، بل هي صراع شامل متعدد الأبعاد، يُعيد رسم خرائط الردع، ويكشف عن هشاشة البنى التحتية الحديثة أمام أدوات غير تقليدية. إنها حرب تُدار في الخفاء وتحت أجنحة الظلام، لكن نتائجها ملموسة: في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي وعي الشعوب. ومع غياب أفق للحل أو التهدئة، فإن هذا الصراع المفتوح مرشح لأن يكون أحد أطول وأعقد المواجهات في الشرق الأوسط خلال العقود القادمة، خصوصًا إذا ما اتسعت رقعته، أو قررت أطراف أخرى دخول ساحة الحرب الرقمية.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
231
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
828
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
159
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• متخصص بالسياسة السيبرانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6165
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3741
| 21 أكتوبر 2025