رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بالنسبة له، هو الشخص الوحيد الذي باستطاعته قيادة البلاد والعباد نظرا لخبرته ودهائه وذكائه وتجربته وتاريخه وحنكته وعدالته واهتمامه بكل كبيرة وصغيرة في المجتمع. اهتمامه بالفقراء والمساكين جعل منه الأب الروحي للأمة.
لا يوجد في البلاد شخص غيره يتولى القيادة والرئاسة هكذا يظن ويفكر ويستنتج والحاشية المحيطة به من سياسيين ورجال أعمال ومثقفين وأساتذة وجامعيين يثنون علية ويمدحونه ويؤكدون له أنه العظيم والأحسن والأفضل للأمة.
يترجونه بعد نهاية كل عهدة أن يوافق على الترشح لعهدة جديدة من أجل الاستمرارية وإكمال المشاريع العظيمة والكبيرة.
يوهمونه أنه لا أحد غيره يستطيع إنقاذ الأمة من المشاكل التي تحيط بها من كل صوب. نعم هذا هو الوضع في العديد من دول العالم الثالث التي تفصل الدساتير والقوانين على مقاس رؤساء يتم استخدامهم واستغلالهم من محترفي النفاق وصناع الرؤساء. هذه النوعية من الطفيليين هدفها هو النهب والسرقة والتلاعب بأموال الأمة من اجل مصلحتهم الخاصة، في هذه الأنظمة الكل يسبح بحمد الرئيس العظيم منقذ البلاد والعباد، المشرع والفيلسوف والداهية صاحب المشاريع الكبرى والبرامج الاستراتيجية والحيوية.
الإعلام في هذه الأنظمة سواء كان خاصا أم حكوميا أم مستقلا أم سميه كما شئت يسبح ويمدح ويمجد الإنجازات العظيمة والكبيرة ويتكلم عن المشاريع الضخمة وعن الوحدات السكنية التي وزعت على المواطنين. هذه الأنظمة تعيش نفاقا اجتماعيا لا مثيل له، لأن ما تتداوله وسائل الإعلام والقنوات الاتصالية المختلفة شيء والواقع شيء آخر.
ظاهرة رئيس "مدى الحياة" غرست الأنا المتورم في شخصية الرئيس وجعلته يؤمن إيمانا راسخا أن الشعب عن بكرة أبيه يحبه وان الجميع يقدر تضحياته من أجل استتباب المن والأمان والطمأنينة في البلاد.
الرئيس "مدى الحياة" يتفنن من خلال الحاشية المحيطة به بتعديل وتفصيل الدستور على مقاسه وإذا كانت هناك مادة في الدستور تحدد عدد تولي الرئاسة في ولايتين فإن حاجة البلاد للرئيس تتوجب تعديل الدستور وإلغاء أو تحويرها حتى يفصل الدستور على مقاس الرئيس ويستطيع بذلك أن يحكم البلاد مدى الحياة لأنه بحاجة إلى وقت أطول "للاستمرارية" و"استكمال المشاريع الضخمة".
في يوم الجمعة 22 فبراير الماضي فاجأ الشارع الجزائري الرئيس "مدى الحياة" وحاشيته بمسيرات سلمية في العديد من الولايات والمدن الجزائرية. الرسالة كانت واضحة مفادها لا لعهدة خامسة. فبعد عشرين سنة من الحكم ونظرا لظروف صحية قاهرة لا تسمح للرئيس قانونيا ودستوريا أن يترشح للاستحقاقات الرئاسية ولا تسمح له بقيادة بلاد بحجم الجزائر وهو لا يقدر على الكلام وعلى الحركة. ففي رئاسية 2014 ترشح الرئيس "مدى الحياة" للرئاسيات وهو غير مؤهل صحيا للمنصب ورغم ذلك استطاعت حاشية الانتهازيين والوصوليين من فرضه بطريقة أو بأخرى على الشعب الجزائري.
فمنذ 2013 وبعد وعكة صحية حادة لم يخاطب الرئيس "مدى الحياة" الشعب الجزائري فما بالك باستقبال الرؤساء والسياسيين والوفود الرسمية. هذه الوضعية فُرضت على الشعب الجزائري في غياب معارضة قوية وأحزاب سياسية قوية تكون بمثابة المراقب والفيصل في القضايا الجوهرية للأمة.
الفراغ السياسي في الجزائر فسح المجال واسعا أمام حاشية الرئيس "مدى الحياة" بالتلاعب بمصير الأمة وتجاهل القضايا الحساسة في المجتمع الجزائري كالبطالة وقوارب الموت وقضايا الكوكايين والمخدرات وقضية سوناطراك والخليفة والطريق السيار وغيرها من قضايا الفساد.
خروج طلبة الجامعات في عدة ولايات وكذلك خروج المحامين والصحفيين وكذلك شخصيات تاريخية وسياسية يعطي مؤشر قوي أن الشارع في الجزائر هذه المرة قرر أن يحدد مصيره بيده وأن يقول لا لاستمرارية الفساد ولاستمرارية رئيس "مدى الحياة". مع السف الشديد جاءت بعض ردود السلطة منافية للمنطق والعقل وضاربة عرض الحائط إرادة الشعب. كيف نفسر رد رئيس الوزراء بالقول إن في سوريا "بدأت بالورود وانتهت بالدم"، أو رد قائد الأركان بقوله أنه لا يجب أن نعطي المجال لقوى خارجية تتلاعب بشبابنا.
المسيرات السلمية جاءت كرد فعل طبيعي ومنطقي وواع لشارع صبر كثيرا وقرر أخيرا أنه غير مستعد لعهدة خامسة ولخمس سنوات قادمة يحكمه رئيس مقعد على كرسي لا يقدر على الكلام والحركة.
ما يحدث هذه الأيام في الجزائر هو سلوك سياسي حضاري لشارع لم يجد لا في السلطة ولا في المعارضة ولا في النخبة المثقفة من يضع حد للاستهتار به والاستخفاف بذكائه ومن يضع حد لسنوات من الفساد والتلاعب بأموال الشعب.
رئيس "مدى الحياة" موجود منذ الأحد الماضي في سويسرا للعلاج وهو مرشح فوق العادة لعهدة خامسة. كان من المفروض أن يتواجد في أرض الوطن والتحضير لحملته الانتخابية وتقديم ملفه للمجلس الدستوري يوم الأحد 3 مارس.
فالمنطق السياسي والديمقراطي يقول لعقلاء الجزائر أن السلطة الحقيقية هي سلطة الشعب وأن إرادة الشعب يجب أن تُحترم. كما يفرض المنطق على عقلاء الجزائر وعلى من يحب الجزائر ومن يحب الرئيس "مدى الحياة" أن يتم الرفق به واحترامه وعدم استغلاله من قبل حاشية انتهازية لتحقيق مصالح ضيقة على حساب بلد بكامله. فمستقبل الجزائر تحدده عملية التناوب على السلطة وعملية احترام الرأي العام وعملية الممارسة الديمقراطية النزيهة وليس عملية فرض رئيس لم يخاطب شعبة منذ 7 سنوات وفي أخر كلمة له في 5 مايو 2012 صرح بأنه حان الأوان لتقديم المشعل لجيل الشباب.
ما يمليه المنطق على كل جزائري غيور على بلده ومؤمن بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية أن مرحلة رئيس "مدى الحياة" قد ولت وحان الأوان لرئيس يستوفي الشروط التي حددها الدستور ويحظى بثقة الشارع الجزائري وليعلم الجميع أن الجزائر تزخر بشخصيات تتمتع بالنزاهة وبالكفاءة وبالمسؤولية لقيادة البلاد والعباد.
mkirat@qu.edu.qa
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5589
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3714
| 21 أكتوبر 2025