رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

م. حسن الراشد

مساحة إعلانية

مقالات

1446

م. حسن الراشد

التقطير.. الرؤية الوطنية لا العملية الفيزيائية

02 سبتمبر 2025 , 12:49ص

التوطين أو التقطير ليس مجرد رقم أو نسبة أو شعار يوضع على الوظائف بأسماء قطرية، بل هو مشروع وطني استراتيجي شامل يهدف إلى بناء مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد وأجيالها، تقوده الكفاءات الوطنية في مختلف مجالات الحياة والخدمات اليومية. إنها استراتيجية طموحة تؤمن بقدرات الشباب وتفتح أمامهم آفاق الإبداع الوظيفي في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على وجه الخصوص.

ولكي ينجح هذا المسار، لا بد أن يقوم على ركائز أساسية: “التخصصية” في اختيار الكوادر المناسبة لتلبية احتياجات سوق العمل، و“التدريب” الذي يصقل المواهب، و“التأهيل” الذي يرسخ الخبرات، و“التشجيع” الذي يعزز الثقة بالنفس، إضافة إلى “المتابعة والإرشاد” لضمان استمرارية الأداء وتحقيق الأهداف. فالمطلوب ليس فقط إعداد موظف ماهر، بل صناعة جيل قادر على المنافسة بما يمتلكه من مهارات عملية وفنية وإبداعية وقيادية، وحتى أخلاقية.

ومع ذلك، ما زالت بعض المؤسسات، خصوصًا في القطاع الخاص، تعاني من ضعف في توظيف الكوادر الوطنية المؤهلة. التحدي الحقيقي لا يكمن في غياب الكفاءات، بل في ضعف البيئات الحاضنة ورفضها لاستيعاب هذه الطاقات. من هنا، يصبح من الضروري أن تستثمر الشركات في الكوادر الوطنية، وأن تجعل هدف التوطين من أولويات مجالس إدارتها، مع إلزام الرؤساء التنفيذيين بوضعه ضمن أهدافهم الاستراتيجية (Vision) ومنحهم الدعم الكافي لتحقيق هذا الهدف.

ولا يقتصر التوطين على الموظفين فحسب؛ إذ شملت التشريعات الأخيرة إشراك المتقاعدين القطريين الأكفاء القادرين على العطاء، باعتبارهم رصيدًا وطنيًا لا يستهان به من الخبرات العملية. هؤلاء يشكلون قيمة مضافة للشركات، خصوصًا في القطاع الخاص، بما يقدمونه من استشارات وخبرات تراكمية تقلل من الحاجة إلى الخبراء الأجانب والمكاتب الاستشارية المكلفة. إنهم بمثابة عامل محفّز (Catalyst) قادر على تدريب الأجيال ونقل المعرفة دون أن يشكلوا عبئًا ماليًا إضافيًا على المؤسسات.

وفي هذا السياق، جاء صدور القرار الأميري السامي رقم (27) لسنة 2025 بإنشاء جائزة قطر للتوطين في القطاع الخاص ليشكل دفعة إضافية ومحفزًا قويًا لتشجيع المؤسسات على تعزيز جهودها في استقطاب الكفاءات الوطنية، وإبراز دورها في دعم التنمية المستدامة من خلال التوطين الفعّال.

وتبرز تجربة قطر للطاقة (QatarEnergy) كنموذج ملهم لنجاح عملية التوطين. فقد تمكنت، رغم الصعوبات في بداياتها منذ انطلاقة الخطة الوطنية لتقطير (Qatarization) في قطاع الطاقة والصناعة قبل أكثر من 24 عامًا، من بناء كادر وطني مؤهل على أعلى المستويات. لم تكتفِ باستقطاب الكوادر الوطنية وابتعاثها لأفضل الجامعات العالمية في التخصصات المطلوبة، بل تحولت إلى ما يشبه “جامعة” تخرّج القادة الأكفاء المتميزين بالالتزام والكفاءة. لقد أثبتت أن التوطين الفعّال لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو مكاتب استشارية باهظة، بل إلى رؤية واضحة، والتزام راسخ، وإيمان صادق بقدرات الشباب. ومن هنا أصبحت قطر للطاقة ليست مجرد شركة، بل في الحقيقة “مدرسة” لصناعة الكوادر الوطنية القادرة على قيادة المستقبل بثقة واقتدار.

ويُسجَّل لوزير الطاقة أنه يترأس بنفسه جميع اجتماعات لجنة التقطير (التوطين) السنوية، ويشرف ويعتمد الخطة الاستراتيجية لقطاع الطاقة والصناعة للسنوات القادمة. وخلال هذه الاجتماعات يتم تكريم الشركات والمؤسسات التي حققت تقدمًا وتميزًا ملحوظًا في جهودها لعملية التقطير وفق معايير محددة، مما يعزز روح المنافسة الإيجابية بين المؤسسات ويحفزها على تطوير برامجها الوطنية.

إن التوطين ليس سياسة حكومية فحسب، بل هو واجب وطني وديني ومسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل مسؤول. فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بالأرقام والإحصاءات فقط، بل يُبنى على العلاقة الإنسانية بين المسؤول والموظف. علينا أن نتعامل مع الموظف القطري، خصوصًا الشاب الذي تنقصه الخبرة، لا كـ”مرؤوس” أو “منافس”، بل كـ”صديق” و”شريك”. عندما يُمنح الثقة ويُعامل بروح الدعم، تتفتح أمامه آفاق لا حدود لها. صحيح أن الأمر يتطلب وقتًا وصبرًا وجهدًا، وقد تصاحبه أخطاء، لكن تمامًا كما نتعامل مع أبنائنا، يجب أن نوجّه ونصحّح بروح من الحكمة والاحتواء.

إن بناء الثقة هو الاستثمار الأهم. فعندما يثق الموظف بقائده ويشعر بالدعم والمساندة، يبذل أقصى جهده لتجاوز التحديات. وفي المقابل، يمكن أن ينهار هذا الجسر بكلمة عابرة أو موقف محبط واحد. لذلك، يُقاس نجاح المسؤول الحقيقي بقدرته على تحويل الموظف الشاب من موظف مبتدئ إلى “قائد محترف”. هذه العلاقة الإنسانية هي الركيزة الأساسية لبناء كوادر وطنية واثقة قادرة على قيادة المستقبل وتحقيق التنمية المستهدفه.

وفي الختام، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن لتجربة “قطر للطاقة” الاستثنائية الناجحة أن تكون نموذجًا يُطبّق على نطاق واسع في جميع القطاعات ومؤسسات ووزارات الدولة؟

دمتم …. والسلام ختام

مساحة إعلانية