رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
للمرة الأولى في أكثر من ثلاثة عقود، تجري إيران محادثات علنية مباشرة مع الولايات المتحدة التي تعتبرها خصمها الأكبر على الساحة الدولية، وتطلق عليها في أدبياتها السياسية والأيديولوجية لقب "الشيطان الأكبر".. إذ جرى خلال هذا الشهر لقاءان علنيان بين نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ونظيره الأمريكي وليام بيرنز في جنيف وفيينا، وبحضور ممثل عن الاتحاد الأوروبي وذلك في محاولة "لإزالة العقبات التي تعترض سبيل التوصل إلى اتفاق لحل أزمة الملف النووي الإيراني".
منذ الثورة الخمينية عام 1979، بنى النظام الإيراني جزءا كبيرا من شرعيته في الداخل وبين مواليه في الإقليم على العداء للولايات المتحدة وسياساتها، ومن ثم القطيعة التامة معها، لذلك لا ينبغي أبداً التشكيك بوجود حالة من التنافر بين طهران وواشنطن وذلك منذ أن توقفت إيران عن تأدية دور الحارس للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج بعد سقوط نظام الشاه.. فمنذ ذلك الحين تحولت إيران إلى منافس يسعى إلى الهيمنة الإقليمية وبما يتعارض في كثير من الأحيان مع جوهر المصالح الأمريكية، التي كانت وما تزال تقتضي منع أي قوة إقليمية كانت أو دولية من السيطرة على منطقة الخليج بثرواتها النفطية الهائلة وموقعها الجيوبولتيكي الهام.
لكن التناقض مع واشنطن لم يخف يوماً رغبة إيرانية دفينة في التوصل إلى تفاهم معها تعترف بموجبه لنظام الجمهورية الإسلامية بما كانت تعترف به لنظام الشاه قبل الثورة من مكانة ونفوذ إقليمي، لا يتعارض بالضرورة مع جوهر المصالح الأمريكية بل قد يقوم بخدمتها.
لذلك، ورغم كل الضجيج الأيديولوجي في الخطاب السياسي للنخبة الإيرانية، والاتهامات التي تكال إلى الخصوم سواء في الداخل أو الخارج بالتعامل مع واشنطن، إلا أن التواصل السري الأمريكي-الإيراني لم ينقطع حتى في أكثر المراحل تأزماً في العلاقات بين البلدين وفي أكثر الفترات "ثورية" في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
ففي الشهور الأولى لاندلاع الثورة في إيران، أرسل الرئيس جيمي كارتر، وكان بدأ يفقد الأمل في قدرة الشاه على مواجهة غضب الشارع والاستمرار في الحكم، بوزير العدل في إدارته رمزي كلارك للقاء آية الله الخميني في باريس وعرض عليه الاعتراف بحكومة الثورة واحترام الاتفاقات الثنائية بين طهران وواشنطن بما فيها عقود التسليح، وبالفعل جرى استئناف صادرات الأسلحة الأمريكية إلى إيران وذلك كبادرة حسن نية اتجاه حكومة الثورة. كما أفرجت أمريكا عن قطع غيار عسكرية أخرى مهمة جرى شحنها لإيران عن طريق مدريد.
وحتى اقتحام سفارتها في طهران ظلت أمريكا تراهن على استعادة إيران عبر تأييدها لحكومة مهدي بازرجان أول رئيس وزراء إيراني في عهد الجمهورية، حيث جرى ترتيب اجتماع له في الجزائر مع مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر زبغينو بريجنسكي.. لكن اقتحام السفارة واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكان رهائن في طهران ثم طرد بازرجان في خضم الصراع بين مختلف قوى الثورة بدد كل آمال واشنطن باستعادة إيران.
رغم ذلك، ومع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية مالت إدارة الرئيس كارتر إلى تأييد إيران ضد العراق الذي كان في ذلك الوقت حليفاً لموسكو، بيد أن الفكرة لم تتطور بسبب أزمة الرهائن والخوف من ردود فعل الرأي العام في الولايات المتحدة، لكن إدارة الرئيس ريغن التي خلفت كارتر عادت إلى دراسة الفكرة بعد أن أطلقت طهران سراح الرهائن وردت واشنطن بالإفراج عن صفقة أسلحة جديدة لها، كما قام البنتاجون بتزويد إيران بصور التقطتها الأقمار الصناعية الأمريكية تبين مواقع وتحشدات القوات العراقية على خطوط المواجهة الرئيسة.. وبسبب الخشية من افتضاح العلاقات العسكرية مع طهران، أوكلت واشنطن ملف تسليح إيران إلى إسرائيل، لكن التحالفات تغيرت عندما بدأت كفة إيران ترجح خلال معارك عامي 1982-1983، فقام دونالد رامسفيلد مبعوثاً عن إدارة الرئيس ريغان بزيارة بغداد، ومهّد لعودة العلاقات بين البلدين في عام 1984، هذا في الوقت الذي ظلت فيه إسرائيل تزود إيران بالأسلحة الأمريكية حتى انكشف أمرها عام 1986.
بعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية ووفاة الخميني، حاول الثنائي خامنئي- رفسنجاني تنشيط قنوات الاتصال مع الأمريكيين، لكن هؤلاء لم يعودوا مهتمين كثيراً باستعادة إيران بسبب انتهاء الحرب الباردة واعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، بيد أن هذا لم يمنع تجدد المحاولة مع الرئيس خاتمي الذي خاطب الشعب الأمريكي عبر قناة السي إن إن في آب 1998، في حين ردت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بما يشبه اعتذارا عن قيام بلادها بدعم الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1953 وإعادة الشاه إلى الحكم.
لكن هذه المحاولة لم تتطور بسبب اشتداد الخلاف بين النخب الإيرانية الحاكمة بشكل كاد يهدد موقع مرشد الجمهورية، الذي استخدم العداء لأمريكا سلاحاً في وجه خصومه الداعين إلى تقارب مع الغرب.
استغلت إيران أحداث أيلول سبتمبر 2001 لتقدم نفسها لإدارة بوش الابن حليفاً في مواجهة "التطرف السني" الذي ضرب واشنطن ونيويورك، فسمحت للأمريكيين باستخدام أجوائها في غزو أفغانستان، لا بل قامت بنقل جنود أمريكيين على متن طائرات نقل خاصة بها إلى شمال أفغانستان.. لكن إدارة بوش خيبت أمل الإيرانيين عندما ردت لهم الجميل بضمهم إلى محور الشر إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. لكن هذا لم يمنع طهران من تقديم المساعدة مجددا أثناء التحضير لغزو العراق، فجرى نقل الآلاف من ميليشيا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة باقر الحكيم فمهدوا للأمريكيين دخول بغداد قبل أن يعيثوا فيها فساداً.
أخيراً، كان ملفتاً مقدار السرية التي أحاط بها المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون اجتماعاتهم التي كانت تستضيفها سلطنة عمان منذ وصول الرئيس أوباما إلى الحكم عام 2009، وتكثفت في الشهور الأخيرة لتسفر عن التوصل إلى اتفاق جنيف النووي المؤقت في شهر نوفمبر الماضي.. إذ لم يعلم بهذه الاتصالات حتى أقرب حلفاء واشنطن بمن فيهم إسرائيل، أما الفرنسيون والروس فقد أصيبوا بما يشبه الصدمة عندما جرى الكشف عن حقيقة ومدة هذه الاتصالات، الآن وبعد أن تكشف كل ذلك يبدو أن الإيرانيين خاصة ما عادوا متحرجين من إجراء هذه اللقاءات في العلن، رغم أنهم مازالوا مستمرين في استخدام خطاب العداء لأمريكا أداة للحشد والتعبئة تقل الحاجة إليها أو تزيد حسب مقتضيات الحاجة والظرف.
الدوحة مركز عالمي لدعم جهود مكافحة الفساد
جاءت استضافة الدوحة لأعمال مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في دورته الحادية عشرة، بحضور... اقرأ المزيد
39
| 16 ديسمبر 2025
القوة الناعمة للصين.. التطور والتحديات
مع بداية الصحوة القوية لما يسمى (الصعود الصيني) في أوائل الألفينات، بدأت الصين في إيلاء مزيد من الاهتمام... اقرأ المزيد
48
| 16 ديسمبر 2025
الفجوة الصامتة بين التعليم والمستقبل
لا يزال التعليم في كثير من مدارسنا وجامعاتنا قائمًا على نموذج قديم، جوهره الحفظ واسترجاع المعلومة، لا فهمها... اقرأ المزيد
45
| 16 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1236
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
801
| 10 ديسمبر 2025