رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لقائل من القراء الكرام: هل يمكن أن نتغافل عما يجري من جرائم إبادة وتجويع وترويع في غزة ونخصص مقالا لأوكرانيا؟ جوابي هو أن قضيتنا المركزية نحن العرب والمسلمين هي قضية فلسطين ونتابع أدق تفاصيلها لكن النظام العالمي الذي ترتسم معالمه منذ العهدة الرئاسية الثانية للرئيس (دونالد ترامب) تضطرنا الى الأخذ بعين الاعتبار مدى قوة الترابط بين حرب الشرق الأوسط وحرب أوروبا لأن بؤر العنف متصلة بعضها ببعض. ونعود لقراءة ملف المعضلة الأوكرانية التي عادت تطفو على السطح مع هجوم القوات الروسية على العاصمة (كييف) وقصف مقر مجلس الوزراء رغم الإعلان المؤقت عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع الدعوة الغريبة الموجهة من قبل الرئيس الروسي (بوتين) الى نظيره الأوكراني (زيلنسكي) للقدوم الى موسكو والتفاوض مباشرة معه حول السلام! وفي نفس السياق نسجل اجتماع قادة نحو ثلاثين دولة غربية في قصر الإليزيه ضمن قمة «تحالف الراغبين» بحثا عن مخرج سياسي يضع حدا للصراع بين موسكو وكييف.
الأوروبيون يرفعون سقف الرهانات متعهدين بتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا إذا ما تم التوصل إلى اتفاق سلام بينما تبقى الأنظار متجهة نحو واشنطن وموقف الرئيس (دونالد ترامب) الذي قد يحسم مسار هذه المبادرة. فما الضمانات التي تسعى إليها الدول الأوروبية؟ وما موقف موسكو منها؟ كما أن صمت الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) عن أي تعليق على هذه القمة يوحي بأنه لا يعير أهمية لهذا التحرك الأوروبي في حين نعت الرئيس الروسي نظيره (ماكرون) بقائد حملة صليبية جديدة (علما بأن الحملات الصليبية القديمة انطلقت من فرنسا بقيادة البابا الفرنسي يوربان الثاني سنة 1005م! حيث تمكن من حشد جيوش الدول الأوروبية التي ذهبت الى القدس بدعوى دينية وهي تحرير أكفان السيد المسيح التي قال عنها البابا يوربان أنها مستولى عليها من طرف «الكفار!» ويعني المسلمين. وبهذه التعبئة بدأت الحملات الصليبية السبعة. ونعود الى أحداث اليوم بعد هذه اللمحة التاريخية الضرورية لإنارة الحاضر. فقد استمر الجيش الروسي في قصف العاصمة الأوكرانية (كييف) طيلة الشهر الماضي، ولو استعرضنا تلك الضمانات المطلوبة لوجدنا أن الضمانة الأولى: هي تعزيز الجيش الأوكراني على المدى الطويل وأن الضمانة الثانية: هي نشر قوات من دول التحالف داخل الأراضي الأوكرانية أما الضمانة الثالثة وهي الأصعب فتتمثل في اقتراح الرئيس الفرنسي بضم أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي مما يسمح للحلفاء أن يطبقوا بندا شهيرا وخطيرا من بنود (الناتو) وهو نشر قوات الحلف في أوكرانيا ومواجهة من يعتبرونه «المعتدي المحتل الروسي لأوكرانيا» أي اعلان حرب الحلفاء ضد روسيا! وكما يعلم كل من درس تاريخ الحروب فإن هذه الضمانة تبقى نظرية ومستحيلة التنفيذ لأن مساحة الحدود الأوكرانية - الروسية الشاسعة (حوالي 1000 كيلومتر) تجعل من الصعب على «تحالف الراغبين» نشر قوات كافية حتى لو وافق الرئيس (بوتين) الذي كما توقعنا رفض رفضا قاطعا هذا السيناريو واعتبره تهديدا استراتيجيا لأمن بلاده القومي. وتُعد هذه الضمانة من بين الأهم في ظل التفوق الروسي في السماء وهجمات الطائرات المسيّرة التي تستهدف مدناً ومناطق أوكرانية بشكل متواصل. وقد طالبت كييف مرارا بتأمين مجالها الجوي عبر تمركز قواعد جوية في بولندا ورومانيا بمساعدة أمريكية. وهنا يظهر الدور الأمريكي إذ لا ترغب أي دولة أوروبية في اتخاذ مثل هذه المبادرة (مهاجمة روسيا في حال خرقت الاتفاق) دون غطاء أمريكي. وفي خضم هذه التحركات الأوروبية التي تتسم بالفوضى والتردد والخوف من المجهول وفي النهاية ظل قادة دولهم يراوحون مكانهم في شكل (مكانك سر) إذ ليس من السهل أن يتحمل واحد منهم وزر التسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة من المؤكد أنها ستكون نووية في النهاية حتى لو بدأت بالأسلحة التقليدية. ويرفضون أن يحتفظ التاريخ باسم أي منهم كمتسبب في قتل ملايين الأوروبيين والروس! فاكتفى قادة أوروبا بالتوافق على «عقد مؤتمر دولي يحضره الراغبون في دعم أوكرانيا» وتطوعت إيطاليا باقتراح عاصمتها روما كمقر لهذا المؤتمر مع اعتقادي الشخصي أن لا أحد من القادة المتحمسين نظريا لإعانة (زيلنسكي) يؤمن بإمكانية عقد المؤتمر المذكور! أو في صورة عقده أن يتقدم خطوة نحو الإنجاز. هل تذكرون ما قاله الرئيس (ترامب) في الأيام الأولى من عهدته الثانية؟ قال «سوف أنهي الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 24 ساعة!» وطبعا فرح كل من بوتين وزيلنسكي بهذا الوعد والسبب أنهما تعبا من الحرب ولا يريان لها مخرجا سوى ذلك الوعد. لكن المتشائمين من الجانبين يدركون أن نفس الرئيس قال نفس الوعد عن حرب الإبادة التي ترتكبها حكومة العنصرية الاسرائيلية ضد شعب غزة ولم يكن وفيا لوعده بل غير موقفه من رجل سلام يطمح لنيل نوبل للسلام الى مساند لرئيس حكومة إسرائيل بلا شروط وبلا حدود! ولعل بعض الأمل يعود بعد أن استقبل ترامب في البيت الأبيض عائلات الرهائن المحتجزين كما استقبل في نيويورك بمناسبة انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة قادة الدول العربية المجاورة لإسرائيل وأبلغوه أن دولة الكيان مارقة عن جميع القوانين والأخلاق وأنها تهدد أمن المنطقة والعالم. ثم هلت علينا مفاجأة جديدة من مفاجآت الرئيس الأمريكي حين صرح بأنه يعتبر روسيا «نمرا من ورق» وانقسمت تقييمات المراقبين بين من اعتبرها تكتيكا جديدا لإرغام بوتين على الرضوخ للتفاوض ومن رآها تحولا في الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية ثم هل حقا روسيا «نمر من ورق» كما وصفها ترامب؟.
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
165
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
87
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
102
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6321
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5082
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3816
| 21 أكتوبر 2025