رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لقد بات واضحاً أن جوهر الإصلاح السياسي في البلاد العربية لا يكمن دائماً كما يظن البعض في استبدال أفراد بأفراد، لأن هناك موروثاً سياسياً / ثقافياً مشتركاً بين أفراد وجماعات النخبة السياسية التقليدية العربية بجميع ألوانها الأيديولوجية، سواء كانت في داخل إطار السلطة السياسية أو في صفوف المعارضة، وهو موروثٌ يغلب أن يُفرز لنا قياداتٍ سنُفاجأ كلّما وصلت إلى موقع صناعة القرار بأنها تشترك مع غيرها في كثير من الصّفات التقليدية، بغض النظر عن شعاراتها التقدمية في مراحل ومواقع المعارضة العتيدة.
ثم إن أي عملية إصلاح سياسي في البلاد العربية لا يمكن إلا أن تحصل في إطارٍ يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السياسي الراهن إضافة إلى الإرث السياسي التاريخي للبلاد العربية. وهذا يتطلب، حتى في زمن الثورات، سلسلةً معقدةً وطويلةً من الإجراءات، لأن الإصلاح نفسُهُ أكثرُ تعقيداً وطولاً مما يعتقد البعض بناءً على الحماسة وردود الأفعال. فهو يتطلب وضعَ قواعد جديدة للحياة السياسية مختلفة كلياً عن القواعد المألوفة السابقة، ويتطلب أيضاً بناءَ هياكل ومؤسسات قد تختلف إلى درجةٍ كبيرة عما هو موجودٌ ومُتعارفٌ عليه في الحاضر. وهذا كله يحتاج إلى كوادر سياسية تستطيع استيعاب تلك القواعد والعمل من خلال تلك المؤسسات.
لكن الأصعب من هذا كله هو أن عملية الإصلاح السياسي تتطلب تشكيل ثقافة جديدة في المجتمع بشكل عام، وهي ثقافةٌ يمكن أن تتضارب مع كثيرٍ من الأعراف والتقاليد السائدة التي اختلطت فيها إلى درجةٍ كبيرة الثوابت بالمتغيرات.
إن السبب الأول والأساسي لحصول البلبلة في عمليات الإصلاح السياسي يتمثل في تفكّك وعدم تماسك الهياكل الأساسية للبنية العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وأحياناً في عدم وجود الهياكل أو البنية المطلوبة من الأساس. فما هو قائم من تلك الهياكل تمّ بناؤُه وفقاً لمعطيات مرحلةٍ سابقة، تختلف بشكل شمولي عن معطيات المرحلة الراهنة. الأمر الذي يعني أن صلاحية تلك الهياكل انتهت، ليس فقط بفعل التآكل والاهتراء الذي طرأ عليها من خلال هيمنة نفس الأشخاص ونفس طرق التفكير والعمل لفترة طويلة، وإنما أيضاً من واقع أنها لم تعد تصلح لتحقيق الوظائف المطلوبة منها في خضمّ المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها على جميع المستويات.
والخطورة في المسألة أن يقوم البعضُ بعمليات قياسٍ خاطئة على بعض تجارب وأحداث سابقة، والتي استطاعت الهياكل التقليدية استيعابها بأقل حدٍ ممكن من التكاليف. أما مكمن الخطر فيكمن في التجاهل، عمداً حيناً وعن غير قصد حيناً آخر، لحجم التغيير الذي أصاب البنية السياسية والثقافية العالمية في السنوات الأخيرة. بحيث يُصبح الإصرار على معالجة الواقع والمستجدات بالهياكل القديمة وطرق التفكير القديمة مدخلاً للفشل، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، لأن فيه معاندةً للتاريخ ولسنن وقوانين الاجتماع البشري.
وهنا، ينبغي الانتباه أيضاً إلى خطورة الإعلام ودور من يمكن تسميتهم بـ (تُجار النزاعات) ومصالحهم الكامنة في غياب الإصلاح والمصالحة. فاشتعالُ النزاعات يعني اشتعال المنافسة بين المصالح. وكلما كانت النزاعات كبيرةً وشاملة كانت المصالحُ أكبر. وكلما كبُرت المصالح ارتفع حجم المكافآت والعوائد التي يجنيها مَن يخدمون تلك المصالح. وبما أننا نعيش في عالمٍ أصبح الإعلام يُعتبر السلاح الأول في معاركه السياسية والثقافية، فإن هناك إغراءً شديداً لأهل الإعلام للاستفادة من هذا الوضع، ولتحقيق مكاسب لايمكن تحقيق جزءٍ منها في أوقات الاستقرار والسلام.
والمفارقةُ في الإعلام الجديد تكمن في قدرته على أن يكون مدخلاً لتعميق وترسيخ الفرز الثقافي والاجتماعي بشكلٍ متزايد، بسبب مرونته وإمكانياته الهائلة، وتمكّنه من تقديم منابر وقنوات تُمثّلُ جميع أنواع الانتماءات والمدارس الفكرية. لهذا، يمكن أن تمتلك كل مجموعةٍ عرقيّة أو أيديولوجية وكل قبيلة أو منطقة موقعاً على الإنترنت وقناةً فضائية تُعبّر عن أفكارها وتوجهاتها وتركّز على اهتماماتها وتخدم حاجات أفرادها.
إلى هنا يكون الأمر طبيعياً ويمكن أن يدخل في إطار مفاهيم التنوع والتعارف. غير أن المشكلة تظهرُ حين تصبح الأداة الإعلامية وسيلةً للمبالغة في التمايز عن الآخر، وأحياناً إلى درجة التهجم عليه والحطّ من قدره. ثم تبلغُ المشكلة أَوجَها حين تتحول الأداة المذكورة إلى قوقعةٍ أخرى، ولكن بتكنولوجيا حداثيّة هذه المرة. بمعنى أنها تُصبح فرصةً لخلق فضاءٍ داخليٍ مُغلقٍ على أفراده، يغلب عليه التلقين، وتتضاءل فيه مساحة التساؤل والنقد والمراجعة، ويُعاد فيه تجميعُ الأتباع حول منظومةٍ نمطيةٍ مُوَحّدةٍ من الأفكار والآراء.
هنا يبدو الإعلام الجديد في أغرب صوره، ويَظهر حجم التعقيد الكامن في تركيبته العجيبة. وتتبيّن القدرات الهائلة التي يحملها معه للتأثير في الحياة البشرية. ففي مثالنا المذكور، تُصبح وسيلةُ الانفتاح نفسُها أداةً للانغلاق والانعزال ربما يكون مفعولُها أقوى من مفعول العزلة الجغرافية. وتضحى أداةُ التواصل بين المجتمعات أو بين شرائح المجتمع الواحد وسيلةً للانقطاع ولتوسيع مسافات التباعد بحيث تُصبح شاسعةً في تأثيرها، حتى لو كان أصحابُها يقطنون في نفس الحيّ!..
كثيرةٌ هي تحديات الإصلاح، ومسيرتهُ طويلة. لكنه يبدو حتمياً في جميع الأحوال. والخيارات في هذا المجال واضحة وصريحة. فإما أن يكون ذلك الإصلاح خارجاً عن نطاق السيطرة من خلال مزيجٍ من الانفجارات الداخلية و الضغوط الخارجية، ويكون بالتالي في غير مصلحة أحد، أو أن يكون مبرمجاً ومضبوطاً ومستوعِباً لجميع القوى الفاعلة في المجتمع، ويكون بالتالي قادراً على تحقيق مصلحة الجميع.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
216
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
204
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
156
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025