رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

330

سعدية مفرح

عذاب يواسي صاحبه!

07 أبريل 2025 , 01:00ص

الكتابة ليست مجرد حروفٍ تُسَطَّر على الورق أو على الشاشة، بل هي معركةٌ يخوضها الكاتب مع نفسه، مع أفكاره، مع العالم. إنها النور الذي ينبعث من قلب الظلام، والجرح الذي ينزف ليمنح صاحبه نوعًا من الراحة. الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو اختصر هذه الرحلة العجيبة في عبارة واحدة: “الكتابة تُتعب، ولكنها تواسي”، وكأنه يصف ذلك الشعور المتناقض الذي يعرفه كل من جرب أن يسكب روحه على الورق. إنها عملية استنزاف، لكنها أيضًا شفاء؛ ألمٌ، لكنه يحمل في طياته عزاءً لا يمنحه شيءٌ آخر.

أن تكتب يعني أن تنظر إلى العالم بعينٍ ثالثة، عينٍ لا تكتفي برؤية الأشياء، بل تلامس جوهرها، تلتقط التفاصيل التي يغفل عنها الآخرون، وتعيد تشكيلها بلغةٍ قادرة على اختراق القلوب. لكن هذا الامتياز ليس بلا ثمن. الكتابة فعلٌ مرهق، ليس فقط لأنها تستنزف الفكر والمشاعر، بل لأنها تتطلب الغوص عميقًا في الذات، مواجهة المخاوف والشكوك، الحفر في الذاكرة، واستدعاء اللحظات التي ربما حاول الكاتب نسيانها.

كل كاتب يعرف ذلك الشعور المزعج حين تتزاحم الأفكار في رأسه لكنه يعجز عن ترجمتها إلى كلمات، حين يكون المعنى واضحًا في داخله لكنه يتعثر في التعبير عنه، حين يشعر أن اللغة خانته وأن الكلمات لا تليق بما يريد قوله. تلك المعاناة لا يفهمها إلا من اختبرها. ومع ذلك، لا يتوقف الكاتب عن الكتابة، وكأن شيئًا ما في داخله يدفعه إلى الاستمرار، رغم التعب، رغم الإرهاق، رغم الإحباطات المتكررة.

لكن لماذا نكتب إذن، إذا كانت الكتابة بهذا القدر من المشقة؟

ربما لأننا لا نستطيع التوقف. ربما لأن الكتابة ليست مجرد فعل، بل هي حاجة، غريزة، طريق وحيد للخلاص. الكاتب الحقيقي لا يكتب لأنه يريد ذلك فحسب، بل لأنه مضطر، لأنه لو لم يكتب، لاختنق بما يحمل في داخله. الكتابة تمنحنا القدرة على إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتنا، على ترتيب الفوضى، على خلق معنى من العبث، على تحويل الألم إلى شيءٍ أجمل، أكثر قابلية للتحمل.

لكنّ الكتابة ليست مجرد منفذ للألم، هي أيضًا عزاء. ثمة راحة غريبة في القدرة على تحويل المشاعر إلى كلمات، في تحرير ما يعتمل في الداخل وإلقائه على الورق، في الشعور بأن ما نكتبه قد يلمس شخصًا آخر، قد يواسيه، قد يخبره أنه ليس وحده في هذا العالم القاسي. الكلمة المكتوبة أشبه بيدٍ تمتد في الظلام، تربت على كتف القارئ وتخبره أن ثمة من يشعر مثله، من يفهمه، من مرّ بنفس ما مرّ به.

ولذلك، رغم التعب، رغم الألم، يواصل الكاتب الكتابة. يواصل حتى عندما يبدو الأمر بلا جدوى، حتى عندما يشعر أن كلماته لا تساوي شيئًا، حتى عندما يتسلل الشك إلى قلبه ويقنعه أن كل ما يكتبه تافه. لأنه يعلم، في أعماقه، أن الكتابة ليست مجرد كلمات تُكتب، بل هي حياة تُعاد صياغتها، جراح تُشفى، وأرواح تتلاقى عبر الحروف.

ولعل أعظم ما في الكتابة أنها تمنح الكاتب نوعًا من الخلود، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان أن يتحدى الزمن، أن يترك أثرًا يستمر بعد رحيله. الكلمات المكتوبة تظل قائمة، تتنقل بين الأجيال، تقرأها أعين لم تولد بعد، وتتردد أصداؤها في قلوب لم تخفق بعد. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تبقى، تواسي آخرين لم يعرفهم يومًا، وتمنحهم القوة والدفء في أوقاتٍ لم يكن يتخيلها. إنها هدية غير مشروطة، شهادة على أن الإنسان، رغم هشاشته، قادر على أن يترك بصمة لا تمحى، مجرد جملة واحدة قد تنير ظلام شخص ما، وقد تكون الكلمة الأخيرة التي كتبها الكاتب هي البداية لشخص آخر.

غاليانو كان محقًا؛ الكتابة تُتعب، لكنها تواسي. ولعلها التعب الوحيد الذي لا نستطيع، ولا نريد، أن نتوقف عنه.

اقرأ المزيد

alsharq ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟

شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد

9

| 26 أكتوبر 2025

alsharq سلامٌ على غزة وأهلها

تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد

15

| 26 أكتوبر 2025

alsharq رؤية الأسرة القطرية

ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، خطابًا شاملاً بمناسبة انعقاد دور... اقرأ المزيد

12

| 26 أكتوبر 2025

مساحة إعلانية