رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
فيما تقترب حرب إبادة إسرائيل على غزة من عامين- وبسبب التغطية الإعلامية المكثفة التي تعرض فيديوهات وصورا وتصريحات لقادة الاحتلال تدين حرب الإلغاء والإبادة والتجويع والتطهير العرقي في مذبحة ومقتلة العصر. حتى باتت جرائم الاحتلال الإسرائيلي تشبه عند بعض المحللين والمحاكم الدولية ومنظمات حقوق الإنسان بما فيها الإسرائيلية نفسها، بأنه حرب إبادة- وتتحضر لاجتياح مدينة غزة- تبرز صحوة تغطية واضحة في الإعلام الغربي والمجتمعات الغربية خاصة جيل الشباب.. إسرائيل تخسر روحها ومستقبل دعم الأجيال الشابة لها. وذلك بعد كشف استطلاعات الرأي بانقلاب الرأي العام الغربي ضدها كما حذر الرئيس ترامب في مقابلة له الأسبوع الماضي مع دايلي كولر-وحتى تراجع نفوذها ونفوذ (ايباك-AIPAC) اللوبي الأكبر والأكثر نفوذا بتاريخ جماعات الضغط الأمريكية -ومع ذلك يستمر نتنياهو وتحالف ائتلافه الأكثر تطرفا بتاريخ حكومات الاحتلال بالمضي بمشروع حرب الإبادة والتقتيل والتجويع والضم والقضم وبناء وتوسيع المستوطنات والقضاء على أي فرص لحل الدولتين. ويعلنون جهارا لا لدولة فلسطينية إرهابية تكافئ الإرهاب وحماس. أما أبرز رسائل الرئيس ترامب فهي كسر المحرمات بانتقاد مبطن لإطالة أمد الحرب على غزة- لكلفتها على مستقبل إسرائيل وسمعتها. وإشارته بشكل غير مسبوق إلى تراجع مكانة ونفوذ إسرائيل واللوبي الأمريكي-الإسرائيلي المتنفذ في دوائر صنع القرار السياسي خاصة تجاه الشرق الأوسط وإسرائيل بالتحديد. يعلق الرئيس ترامب في مقابلته قائلا: «كان يسيطر اللوبي سيطرة كاملة على الكونغرس والآن بسبب سياسات إسرائيل يفقد ذلك.. وأن إسرائيل ستضطر إلى إنهاء حربها على غزة حيث أضرت الحرب بسمعة ومكانة إسرائيل.
تحذير الرئيس ترامب هذا يدق ناقوس خطر ويرسل رسائل واضحة بأن إسرائيل باتت عبئا استراتيجيا مكلفا على الرئيس وحزبه الجمهوري وحتى تتسبب بشرخ وانقسام وخاصة داخل حركته «الماغا-MAGA» بدأت ملامحه تظهر بانتقادات بصوت مرتفع لم يسبق ملاحظته حول «أمريكا أولاً وليس إسرائيل أولاً»!! والتي يدين لها ترامب بنجاحه في انتخابات الرئاسة مرتين-2016-وخاصة 2024. لذلك أطلق الرئيس ترامب مبادرته الأسبوع الماضي مطالبا حماس بتسليم الرهائن وبذلك تنتهي الحرب. بينما يعلم الرئيس وأعضاء الكونغرس والمعارضة الإسرائيلية وأهالي الأسرى أن نتنياهو وائتلافه المتطرف هم من أحبط وأفشل جميع المبادرات والوساطات حسب اعتراف ماثيو ميلر الناطق السابق باسم الخارجية الأمريكية الذي لطالما راوغ وانخرط في حملة تضليل وكذب لتبرير حرب إبادة إسرائيل على غزة..
لهذا واضح أن نتنياهو المتهم بارتكاب جرائم حرب هو ووزير دفاعه السابق غالنت حسب مذكرتي الاعتقال بحقهما من المحكمة الجنائية الدولية ومن منظمات حقوق الإنسان وآخرها جميعة المفكرين والباحثين في «حرب الإبادة»-وحتى من أكبر منظمة «بتسليم» حقوق إنسان في إسرائيل-لا يريد إنهاء الحرب حتى يحقق أهدافه الهلامية التي تبقى سرابا بالقضاء على حماس وتحرير الرهائن وفرض الوصاية وحكم على غزة ونزع سلاحها وتحييدها.. برغم تسريب المخابرات العسكرية الإسرائيلية فشل تحقيق ذلك!! بالإضافة إلى نشر إحصائية مخيفة أن 83% من ضحايا حرب إسرائيل على غزة حتى مايو الماضي (2025) هم مدنيون بما يتجاوز 53 ألفا مقابل أقل من 10 آلاف من المقاتلين. ما يجعل إسرائيل ترتكب أكبر حرب إبادة بتجاوز أرقام الضحايا المدنيين بين 60-70% من ضحايا الحروب. ومع ذلك تستمر حرب الإبادة بلا هوادة مع متوسط عدد الشهداء 100 شهيد معظمهم مدنيون يُقتلون بالقصف الوحشي وأمام مراكز توزيع المساعدات-ومصائد الموت ومن سوء التغذية والمجاعة والأمراض المتفشية والإصابات!!
لذلك تواجه إسرائيل تحت حكم اليمين المتطرف معركة وجودية في الرأي العام الأمريكي، هي الأخطر على كيانها المحتل منذ نكبة عام 1948. فيما برغم المأساة والمعاناة تحقق القضية الفلسطينية تعاطفا والتفافا شعبيا ورسميا حول العالم. أبرزها إعلان 6 دول فاعلة في النظام العالمي-بريطانيا-فرنسا-كندا-أستراليا ومالطا وحتى نيوزيلندا عزمهم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في اجتماع الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أسبوعين من اليوم. ليرتفع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة إلى أكثر من 155 دولة من 193 دولة بما يضعها في نفس عدد الدول التي تعترف بإسرائيل. وهذا يشكل كابوسا حقيقيا لقادة كيان الاحتلال.
لكن أكبر خسارة تتعرض لها إسرائيل هي تدمير مكانتها وسمعتها ورهانها على المستقبل. فقد أظهر استطلاع رأي لجامعة هارفارد ومؤسسة هاريس المرموقتين يضاف لتحذير الرئيس ترامب من خسارة إسرائيل سمعتها ونفوذها ونفوذ اللوبي الأمريكي-الإسرائيلي المتنفذ-بأن 60% جيل Z-الشباب بين أعوام 18-24-يدعمون حماس ضد إسرائيل في حرب إسرائيل على غزة!! برغم دعم 77% من الأمريكيين وخاصة الأجيال الأكبر والجمهوريين لإسرائيل ضد حماس. لكن نتيجة هذه الإحصائية تدق ناقوس الخطر وبمثابة الزلزال لأن إسرائيل تخسر سرديتها وادعاءاتها التي روجت لها على مدى ثمانين عاماً-وتخسر جيل المستقبل الذي سيكون شبابه في مراكز صنع القرار من سياسيين ونواب وأعضاء مجلس شيوخ في السلطتين التنفيذية والتشريعية والقطاعات الخاصة والجامعات والمراكز الفكرية والإعلامية!! ما يعني أن إسرائيل مقبلة على حقبة صعبة ستجبرها على الرضوخ للواقع والاعتدال وإنهاء الاستقطاب والتطرف وسياسة الإلغاء والقتل والإبادة والضم والعدوان والتوسع والتدمير ! بعدما افتضح أمر مخطط وجرائم إسرائيل، ومعه داعميها الذين باتوا يضيقون ذرعا بها، بعدما أصبحت عبئا مكلفا عليهم وحتى على مستقبلهم السياسي بسبب الغضب الشعبي من ناخبيهم-لأن شعارهم «أمريكا أولاً وليس إسرائيل»!!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6300
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3795
| 21 أكتوبر 2025