رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. حمد بن عبد العزيز الكواري

مساحة إعلانية

مقالات

357

د. حمد بن عبد العزيز الكواري

الترجمة بوصلة الاستئناف الحضاري

08 ديسمبر 2024 , 02:00ص

احتفلت جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي بمرور عشر سنوات على إنشائها.

وأعترفُ لكم في البداية بأنّني أنظرُ إلى هذا الحفل باعتباره لحظة تاريخيّة مؤسّسة، تُشعرني بفخرٍ كبيرٍ حينَ تلتمعُ في ذهني ونحن في فترة حضاريّة جدُّ حساسة من تاريخ ثقافتنا العربيّة بأنّني أشهد على «استئنافٍ حضاريّ» يتولّد من هنا، من الدّوحة كمركز عربي ودوليّ. فما نعيشه في هذا اليوم، وقد مرّت على إحداث جائزة الشيخ حمد للترجمة عشر سنوات، ليُعدُّ حدثًا مُجدّدا لنشاط الفكر العربي وهو يتفاعلُ مع الرصيد الإنساني للمعارف من خلالِ الترجمة.

•••

لنكن اليومَ صُرحاء وجديرين بالاعتداد بهذا المكسب، إنّنا نستعيدُ لحظةً مضيئة من تاريخ ثقافتنا العربيّة، وبقدر ما نُدرك مسؤوليّة تلك الاستعادة فإنَّنا نعي جيّدا التحديات التي تعيشها ثقافتنا وحضارتنا بشكلٍ أشمل، فليست «جائزة الشيخ حمد بن خليفة للترجمة والتعاون الدّولي» مجرّد حدثٍ عابرٍ في سماء الثقافة العربيّة بقدر ما هي انتصارٌ آخر للشخصيّة العربيّة التي لا ترى في هويّتها القوميّة انغلاقا على الذّات رغم ما تعانيه من عداءٍ معلنٍ ومُبطّن في الخطاب الثقافي الغربي، فهيَ لم تيأس من الحوار مع الثقافات الأخرى ولم تبخل بمدّ جسور التّواصل أيّا كانت الظروف، لذلك فالاستمرار في هذا المشروع الكبير هو من أبرز تجليات ديناميكيّة الشخصيّة العربيّة المعاصرة، وأحد عواملِ تجدّدها سيما وهيَ تجعلُ من اللّغة العربيّة لغةً مُحاورة للغات العالم.

•••

من الشيّق أن نعترفَ بأنَّ اقتران الجائزة باسم الشيخ حمد حفظه اللّه، علامةٌ دالّة على وضع رمزيّ في تاريخ قطر المعاصر وليسَ أمرا متعلّقا بتبجيل شخصيّة قياديّة كما هو شائع في كثيرٍ من الجوائز في العالم. ليسَ اقتران الاسم بالمسمّى لإضفاء سمة رسميّة على الجائزة، فما تستمدّهُ الجائزة من الاسم، يتجاوز ذلك بكثيرٍ. إنّنا نعلمُ رؤية سموّ الشيخ حمد للثقافة ودورها في نهضة دولة قطر، بل نُدرك كيفَ ينظر إلى الثقافة باعتبارها جزءا من عمليّة التنمية، ومحورا لتقدّم المجتمعات، فقبلَ عشر سنواتٍ انطلقت هذه الجائزة لتنبتَ في البيئة القطريّة التي مهّد طريقَ نهضتها سموّ الشيخ حمد الأمير الوالد، وعزّز بُناها صاحب السموّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدّى حفظهُ اللّه.

لقد آمن سموّ الشيخ حمد بدور الثقافة في التنمية، وليست الترجمة غير صمّام أمان للثقافة حيثُ تسمح لها بالانتشار بين الشّعوب وتجاوز حدود البلدان، وتحلّق بالمعارف في المكان والزّمان. لذلك فقد كان إطلاق الجائزة ضمن رؤيته الشاملة للثقافة وقدرتها على أن تروّجَ لقيم المجتمع القطري في انفتاحه على الأمم الأخرى.

•••

عندما نتحدّث عن «الاستئناف الحضاري» فإنّنا نقرُّ بوجود مقوّمات لهذا الاستئناف، وهيَ مقوّمات موضوعيّة، وإن كانت متشابكة مع ما هو ذاتي، فلو لم يكن الشيخ حمد مؤمنًا بدور الترجمة في إحداث التغيير الثقافي وبناء علاقات دوليّة متجدّدة وندية مع العالم، لما كانت الترجمة جزءا من هذه المقوّمات. فالعامل الذّاتي مهمّ في أيّ مشروع حضاري. لو لم يكن هارون الرشيد وابنه المأمون مؤمنيْن بمشروع «بيت الحكمة» لـمَا كانَ لهذا البيت أن يضيء أركانَ الحضارة العربيّة في الفترة العبّاسيّة. لذلك لا معنى للمشاريع التي تولدُ دونَ رغبة ذاتية في إنمائها، وكلّما كانَت للمشاريع إرادة ذاتيّة تتحلّى بالإيمان العميق برسالتها فإنّها تثبتُ في تُربة الواقع وتينعُ وتكبرُ مثل شجرة وارفة للمعرفة.

•••

ما تُقدّمه الجائزة للثقافة العربيّة وليسَ لمجال الترجمة فحسب، هو القدرة على بناء الجسور وليسَ بناء الجدران. وأمّا الترجمةُ فهي من لبناتِ هذه الجسور التي عرفتها الحضارات القديمة، وتعهّدتها الحضارة العربيّة الإسلاميّة في أزهى فتراتها. فقد عرف اليونانيّون أزهى مراحل عيشهم حين ترجموا كنوز العلوم والفنّ عن حضارات قديمة كالحضارة الفارسيّة والمصريّة القديمة، وعرفت الحضارة العربيّة الإسلاميّة أبدع لحظاتها حين تحوّلت الترجمة إلى رهان مهم من رهانات الدّولة العباسيّة، ولكنّ الكثيرين يُهملون لحظة مضيئة من تاريخ هذه الحركة الترجميّة، وهي اللّحظة الأندلسيّة، فقد اهتمّ المسلمون في الأندلس بترجمة الكتب والمؤلّفات العربيّة إلى اللّغة اللاّتينيّة والقشتاليّة حتّى عُدّت الأندلس مركزا من مراكز الترجمة وبلغت حركة التعريب أوجهها في القرن العاشر للميلاد بمشاركة الأساقفة الذين أسّسوا معاهد للترجمة في مدينة طليلطلة حيثُ تمّت ترجمة العشرات من المؤلّفات العربيّة التراثيّة في مختلف العلوم كالفلسفة والطب والتنجيم. ومن المهمّ التأكيد أنّ الترجمة في حضارتنا لا تقلّ شأنا عن أيّ نشاط علميّ آخر.

•••

وفي هذه السياقات الحضاريّة المختلفة ظلّت «بيتُ الحكمة» مثلَ المرجعيّة في الذاكرة الجماعيّة للمثقفين العرب، حتّى أنّني أتذكر أننا في 2010 بتوجيه من ‏‏صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة اخترنا رمز «بيت الحكمة» في بغداد في أوج الخلافة العباسية، ‏‏ليكون موضوع حفل «الدوحة عاصمة للثقافة العربية»، منذ ذلك الوقت كان الحلم المشروع لاستئناف حركة الترجمة العربيّة في صميم فكر ووجدان الشيخ حمد، لهذا لا نستطيع، ونحن نستذكرُ المحطّات المضيئة للترجمة في تاريخنا أن لا نصنّف «جائزة الترجمة» ضمن حلقات هذا التاريخ. من الإنصاف دائمًا أن نضعَ هذه الجائزة في صدارة المشروع الثقافي العربي، بعيدًا عن حالة التأزّم التي يعشها جزء من النخب الثقافيّة العربيّة التي انجرّ بعضها إلى تبخيس الذّات وإشاعة اليأس من إحداث التحولات بدل زرع الأمل. هكذا تعطينا الجائزة باستمرار وتيرتها ونجاحها من نسخة إلى أخرى أمل إحداث نقلة نوعيّة في تفكيرنا الثقافي ورؤيتنا المتجدّدة للثقافات الأخرى كلّما قامت الجائزة بتوسيع دائرة اللغات التي يترجم منها وإليها.

•••

في كلّ دورة تُضاف لغات جديدة إلى قائمة اللغات المعتمدة للترجمة حتّى غطت الجائزة خلال عشر سنوات 37 لغة حول العالم، ممّا يوسّع نطاق التفاعل الثقافي لأنّ التّواصل بين الثقافات يتجاوز المعرفة اللغويّة، فاللغة ليست غير جزء من قمّة جبل الجليد المغمور، وكثيرا ما نذهب إلى الاعتقاد بأنّ الترجمة مجرّد امتلاك للغة أخرى ونقل ما تعبّر عنه من معارف الآخرين، قد يكونُ ذلك بُعداً من أبعادها لكنّه ليسَ رسالتها العريقة. ومثلما تتطلّب الترجمة إلماما بثقافة اللغة المترجم منها وإليها فإنّ ما هو جوهري في الترجمة هو تحقيق التقارب بين الشّعوب وتبادل الثقافات بين الأمم. ومن مزايا الترجمة إنقاذ الثقافة الإنسانيّة من الضّياع والتّلاشي والحرق والإتلاف والتّهميش والإقصاء، فهي حافظة مستمرّة، بل أشبه بذاكرة صامدة في وجه الزّمن ودُعاة الانغلاق الفكري. وإنّنا لنذكر ما حدث لكتب ابن رشد وغيره من المفكّرين من حرق، ولولا الترجمة لضاعت الفلسفة الرّشديّة، ولما استطاعت الإنسانيّة أن تتطوّر على هذا النّحو السّريع، لأنّ الترجمة حافظت على ما ساهمت به الشّعوب من إبداعات في الفكر والفن والعلم.

•••

لا مبالغة إذا قلنا إن المترجمين من الأبطال المجهولين، ولا تقل بطولتهم ‏عن بطولة الجنود في الميدان، لذلك تسعى الجائزة لتكريمهم وتقدير دورهم في التعارف بين الشعوب ونقل المعرفة بين الحضارات، ومد قنوات التواصل بين الأمم، إذ أعادت الجائزة المكانة الاعتباريّة للمترجم بل وفّرت له البيئة الإبداعيّة التي تدفعه نحو المساهمة في هذا المشروع الحضاري. لقد أصبحت الجائزة حاضنة للمترجمين وداعمة لهم وأصبحوا لها سفراء في كلّ مكان في العالم، فكلّ المترجمين الذين شاركوا في الجائزة إنّما خاضوا تجربة المشاركة وبعضهم خاض تجربة التتويج وفي جميع الحالات مثّلت الجائزة سياقًا ثقافيا عربيا جديدا للمترجمين المتمسّكين بالتزامهم التاريخي لأجل نقل المعارف للأجيال بأمانة ومسؤولية.

•••

تؤكد الجائزة مكانة اللغة العربية وتأثيرها كلغة حية متطورة، قادرة على التفاعل مع تحديات العصر والمساهمة في التطور الفكري والعلمي في القرن الحادي والعشرين، وتترجم التوجّهات الوطنيّة في تعزيز اللغة العربية هذا المسار، حيثُ لا يُمكن الحديث عن استئناف حضاري دونَ تأكيد حضور اللغة العربيّة وتجديدها، ونعتقد أنّ الجائزة تُساهم في هذا التجدّد الذي تعيشه اللغة العربيّة وهيَ تنقلُ آداب وعلوم الأمم الأخرى، بذلك تكون لغتنا معاصرة لأحوال معاشنا، ومعبّرة عن ذلك التفاعل الدّائم مع منتجات الحضارة الإنسانيّة. ذلك ما تهبهُ لنا الترجمة من إيمانٍ بأنّ العربية ليست لغة الماضي المجيد فحسب، بل هي لغة الحاضر والمستقبل وتحمل في طياتها قدرةً لا متناهية على الإبداع والتجديد.

•••

من مزايا جائزة الترجمة تفاعلها مع مبادرة الأعوام الثقافية ودبلوماسيتنا الناعمة بصورة عامة من أجل تعزيز التفاهم الثقافي والتقارب بين الشعوب، وفي هذا التفاعل ما يؤكّد قدرة الجائزة على أن تكونَ قوّة ناعمة لدولة قطر، وشعاع ضوءٍ في درب الثقافة العربيّة التي باتت في أمسّ الحاجة إلى الوعي بشروط نهضتها، وما الترجمة غير ذلك القنديل المنير لمستقبل حضارتنا، بما تضخّه من معارف معاصرة في عروق ثقافتنا فتتجدّد وتتقدّم.

إنّني في غاية السّعادة وأنا أحلم مثل غيري من المثقفين العرب باستعادتنا لمجد حضارتنا، ونحن نقفُ متفائلين بثمار جائزة الترجمة واثقين من دورها الحضاري.

•••

في هذا اليوم تعود بي الذاكرة إلى موقف تاريخي سنة 2010 عندما التقيت بصاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الأمير الوالد وأمير البلاد آنذاك حفظه الله ورعاه أعجبه شعار الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010 (الثقافة العربيّة وطنا والدوحة عاصمة) وقال لي سموّه: « نحن واثقون من أنّ الدوحة ستنجح هذا العام، ولكن طموحنا أن تكون الدوحة عاصمة دائمة للثقافة» وها هي الدّوحة الآن عاصمة من عواصم الثقافة بكلّ ما تعني الكلمة من معنى. وها هي عاصمتنا بمؤسساتها وصروحها الثقافية ودبلوماسيتها الناعمة تشعّ ثقافة وفنّا وتلعب دورا مميّزا في عالم العرب وفي كلّ مكان بقيادة صاحب السموّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدّى، حفظه اللّه ورعاه.

•••

وإنّني في غمرة هذه السّعادة والتفاؤل أود أن أتقدم بالشكر لفريق جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، وأعبر عن تقديري العميق لجميع المترجمين والباحثين والأدباء الذين يساهمون بجهودهم ‏القيمة ‏في إثراء الثقافة العربية وثقافات العالم، فهم في ذروة العطاء الفكري والقلب النابض للتواصل الإنساني، ويجسدون القيم ‏التي نسعى ‏إلى ترسيخها في مجتمعاتنا.‏ ‏

وأود أن أشكر كل من ساهم في إنجاح هذه الجائزة على مدى السنوات العشر الماضية، هذه الجائزة التي تعزّز فيه التواصل بين الثقافات والشعوب والدول، وتمنحنا أمل الاستئناف الحضاري.

مساحة إعلانية