رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
شكَّلت النسخة الثانية والعشرون من منتدى الدوحة الذي افتتح جلساته أمس حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله، منعطفاً مهماً في مسيرة هذا المنتدى الممتدة لنحو ربع قرن من الحوارات والنقاشات الثرية في قضايا إقليمية وعالمية متعددة المجالات.
النسخة الثانية والعشرون ـ التي حملت شعار حتمية الابتكار ـ أتت بزخم عالٍ في مختلف الجوانب، إن كان ذلك على مستوى الحضور والذي يزيد على 4500 مشارك، أو نوعية المشاركين والذين من بينهم عدد من رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء خارجية ومسؤولين كبار وصناع قرار ـ أو تعدد الدول التي يمثلها المشاركون والتي يصل عددها إلى 150 دولة أتى منها هذا العدد الضخم من المشاركين، أو عدد الجلسات التي بلغت 80 جلسة ركزت على قضايا عالمية مُلحة والأكثر خطورة في العالم، وبحثت سبلا مبتكرة للتحديات، بدءا من التوترات الجغرافية السياسية، والأمن العالمي، وصولا إلى الأزمات الإنسانية والتطورات التكنولوجية.
أزمات العالم تناقش اليوم بالدوحة، التي تمثل منصة تجمع جميع الأطراف الراغبة بالبحث عن حلول إيجابية لقضاياها المختلفة بكل موضوعية وشفافية.
منصة باتت اليوم هي الأكثر مصداقية، والأكثر ثقة العالم بها، بعد تجارب أثبتت الدوحة بقيادتها الواعية والرشيدة أنها قادرة على إنجاز ملفات بالغة الدقة والخطورة بكل إتقان، بعيدا عن «الأنا» أو المصالح الذاتية، أو الأجندات الخاصة، وهو ما أكسبها احترام العالم أجمع وتقديره البالغ للدور الفاعل الذي تقوم به قطر، والاستماع إلى رأي القيادة القطرية حيال الملفات المطروحة بإنصات بالغ، وتقدير عالٍ، لأنها تعلم علم اليقين أن هذا الرأي لهو مجرد عن الأهواء والمصالح الشخصية، هدفه أولاً وأخيراً الأمن والاستقرار ومصالح الشعوب والبلدان التي تحتكم إلى قطر، وتطلب أطرافها المختلفة تدخلا منها لإيجاد حلول لأزماتها ومشاكلها.
اليوم قادة العالم وسياسيوه وصناع قراره ومفكروه وأكاديميوه في قطر يتحاورون ويتناقشون ويطرحون أفكاراً لكيفية تجاوز أزمات تعصف بمناطق ودول وشعوب عديدة، ودوامة من العنف والدماء لا آخر لها، وجرائم تجاوزتها كل الحقب عبر التاريخ، وربما ما نشاهده لأكثر من عام في غزة نموذج لهذه الجرائم المُرتَكَبَة، والتي لم يسبق لها مثيل.
هذا الحضور الكبير من أطياف ومكونات شتى من دول العالم الذين يشاركون بالمنتدى، يبرهن على ما تتمتع به الدوحة وقيادتها عالميا من مكانة عالية، ومصداقية رفيعة، وثقة كبيرة، وحضور فاعل، وأن هذا الحضور يعرف جيدا أن تواجده بمنتدى الدوحة سيخرج بأفق جديد، وتناول بنَّاء، ومعالجات حكيمة، وأطروحات واعية، لقضايا العالم المصيرية، وأزماته المتعددة، ومآسيه المثقلة، التي باتت تشغل العالم، وقد تقوده إلى دوامة أكثر من العنف، وتوسيع رقعة الصراعات في مناطق مختلفة، والدخول إلى أنفاق مظلمة، ستدفع الإنسانية جمعاء أثماناً باهظة جراء السكوت على ما نشاهده اليوم من انفلات لزمام الأزمات، وتشابكها وتداخلها في أماكن عدة.
منتدى الدوحة بات يشكل علامة فارقة كمنصة يلتقي خلالها العالم للتحاور ومناقشة قضاياه، وابتكار الحلول، والبحث عن طرق جديدة لمواكبة كل ما يُستَجد في عالم متسارع في كل المجالات، بما فيها أساليب حل المنازعات، وما استمراريتها طوال هذه السنوات، إلا دليل على نجاحها وتميزها، وأنها باتت تشكل مرجعية مهمة على الصعيد العالمي.
وما يميز كذلك منتدى الدوحة أنه يجمع كل الفرقاء، المتفقين أو المختلفين، فجميعهم يجدون بالدوحة صدراً رحباً، يلتقون ويتحاورون، ويؤسسون في كثير من الأحيان للقاءات قادمة، تكون نواتها ومنطلقها من الدوحة، التي تدير كل اللقاءات وتستوعب كل الملفات، بعقل واعٍ، وسياسة حكيمة، وتوجُّه راشد.
لذلك حققت قطر نجاحات كثيرة وكبيرة في ملفات صعبة، ظنها الكثيرون أنه لا يمكن إيجاد حلول لها، فجاءت وساطة قطر لتفكك تلك الأزمات، وتوجِد حلولاً ممكنة، تُترجم على أرض الواقع، وتحقق أرضية مشتركة للقاء الفرقاء، وإتمام اتفاقات بارعة، أخمدت صراعات قائمة، وأغلقت ملفات كانت مفتوحة لسنوات.
إحدى ركائز النجاحات التي حققتها قطر عبر وساطاتها في ملفات عديدة يرتكز حسب ما قاله معالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية إلى «الرؤية في التعامل مع الأزمات بنظرة شمولية، تتمحور حول الإنسان، وتستوعب الصراع من جوانبه المختلفة، الإنسانية والاقتصادية والسياسية والميدانية، وتبحث في الحلول الجزئية التي تقود إلى معالجة شاملة، وتقسم جذور الصراع ومسبباته إلى ملفات يمكن التعامل معها».
هذه الرؤية القطرية التي تتمحور حول الإنسان، وتجعله في صدارة أولوياتها، وتدافع عن قضاياه في أي بقعة كان، وتبحث عن حلول لمشاكله وأزماته، تقدم للعالم نموذجاً في كيفية التعامل مع الأزمات إذا ما أراد حلولاً جذرية وعادلة لها.
السياسة القطرية سياسة أخلاقية وإنسانية، وهي من الدول القلائل ـ إن لم نقل من النادر ـ التي تصطحب الأخلاق في تحركاتها، تحترم الإنسان، وتقدس حياته، وتعمل جاهدة على حمايته، وتوفير حياة كريمة له، حتى في النزاعات تؤكد دائما على ضرورة حماية المدنيين من أي استهداف.
اليوم أهم الملفات والأزمات في العالم وفي مقدمتها غزة وسوريا تنَاقَش بالدوحة، وتبحث الأطراف المعنية حلولاً لها، وتعود الدوحة مجدداً لتكون حاضنة لمباحثات السلام والاستقرار في مناطق النزاعات، ثقة من العالم بقدرات قطر، ودورها المهم والفاعل، ورصانة سياستها ودبلوماسيتها، وحكمة إدارتها، ونواياها الصادقة.
منتدى الدوحة صاحب نسخته هذا العام أحداث وتطورات على صعد مختلفة في العالم، سياسية وعسكرية وأمنية، لكن اللفتة الأهم في هذه النسخة أيضاً قيام حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، بتكريم نخبة من الإعلاميين الذين دفعوا أثماناً باهظة وهم يؤدون مهام عملهم في نقل الحقيقة، وتعرضوا للاستهداف المباشر خلال قيامهم بعملهم بنقل الجرائم التي تقوم بها «إسرائيل» في غزة ولبنان، وفضح ممارساتها الإجرامية.
هذه اللفتة الكريمة التي تمت بحضور رؤساء وقادة ومسؤولين وصناع قرار من 150 دولة هي رسالة واضحة للعالم عن إيمان قطر وقيادتها بدور الإعلام الحر ومكانة الإعلاميين في نقل الحقيقة، وأهمية دعم ومساندة الإعلام الحر والإعلاميين للقيام بمهام عملهم بكل حرية بعيداً عن الاستهداف.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4803
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3561
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025