رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء.
العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة.
إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات.
تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها.
فهل علماء اليوم كذلك؟
العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب.
فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟
معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم.
فهل أجدت نفعاً؟
العلماء بوصلة الأمة
التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات.
وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟
لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها.
فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!.
استقلالية العلماء المالية
من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!.
ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس.
تأثير العلماء على مستقبل الدول
إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول.
مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد.
الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة.
خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة.
إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
201
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
678
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
108
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
د. عـبــدالله العـمـادي
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4461
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025