رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. فاتن الدوسري

مساحة إعلانية

مقالات

504

د. فاتن الدوسري

ماذا يعكس انتصار ممداني؟

10 نوفمبر 2025 , 06:08ص

فوز زهران ممداني، المسلم الاشتراكي، بمنصب عمدة مدينة نيويورك لما لها من أهمية اقتصادية بالغة، يُعَد حدثاً فارقاً في تاريخ الولايات المتحدة بكل ما تحمله الجملة من معنى. تناولت مئات المقالات، خاصة الأمريكية، هذا الحدث من زوايا كثيرة للغاية، لكن يمكن القول إن العنوان العريض لهذا الحدث هو (بداية العصر أو الحقبة الجديدة لأمريكا) سياسياً، اجتماعياً، أيديولوجياً، حزبياً، فكرياً، إلخ.

 ينصب غالب التركيز في مفاجأة فوز ممداني على خلفيته الدينية لكونه مسلماً، أول مسلم يفوز بمنصب عمدة مدينة نيويورك. هناك مسلمون آخرون قد فازوا بذلك المنصب في ولايات أخرى، فممداني ليس استثناء من ذلك المنصب عامة، لكن الاستثناء أو المفاجأة المدوية أن يفوز مسلم بنيويورك لعدة اعتبارات منها احتكار المنصب لمرشحين ديمقراطيين عادة مدعومين من مليارديرات مسيحيين ويهود، والأغلبية السكانية المسيحية واليهودية للمدينة وولاية نيويورك عموماً.

 وقطعاً، فوز مسلم في تلك المدينة حدث فارق استثنائي، ويستحق التركيز بالفعل، إذ يعكس تداعي التحيز الديني أو الأيديولوجي الكامن في نفوس الأمريكيين منذ عقود، خاصة في مدينة ذات أغلبية غير مسلمة، صوّت فيها جزء من سكانها اليهود لممداني. والتركيز على خلفية ممداني الدينية قد همّش جانباً هاماً أيضاً، وهو أصول ممداني؛ فهو من أصول مهاجرة: أب أفريقي وأم هندية، وبالتالي ففوزه يعكس كذلك تداعي البعد العرقي الذي لا يقل حساسية داخل أمريكا عن البعد الديني، بل يتفوق عليه على خلفية تاريخ الفصل العنصري ورواسبه التي لا تزال كامنة. 

 وحقيقة الأمر التي لم تلقَ الجانب الأهم من الاهتمام - خاصة في مدينة لها خصوصية مثل نيويورك - أن السبب الجوهري في انتصار ممداني قد تأتى من برنامجه الانتخابي شديد الاشتراكية؛ فممداني يمثل أقصى التيار الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي وهو أقلية. وهذا هو ما يعكس بداية الحقبة الجديدة لأمريكا، وكونه مسلماً من أصول مهاجرة يعزز التأكيد على ذلك.

 إذ أبهر برنامج ممداني الانتخابي ذاك الوعود البراقة من توفير وسائل مواصلات مجانية، وتخفيض إيجارات السكن، ورفع الضرائب على الأثرياء، وتوفير دور رعاية مجانية للأطفال.... وغيرها؛ الناخب في مدينة نيويورك، وتناسى أو تغاضى عن خلفية ممداني الفكرية والعرقية؛ إذ بكلمة أخرى، تفوق البعد الاقتصادي الاجتماعي على كافة الأبعاد الأخرى، والدليل القاطع أصوات بعض اليهود له رغم مواقفه تجاه القضية الفلسطينية وإسرائيل التي أثارت غضب اللوبي الصهيوني بشدة. 

 إذن، لا يمثل فوز ممداني بداية هيمنة الاشتراكية وانهيار الرأسمالية في أمريكا، فهذا الادعاء المنتشر أمر مبالغ فيه بشدة؛ بل يعكس فوزه بداية لحقبة سياسة اقتصادية جديدة أبرز معالمها انهيار الرأسمالية المتطرفة أو المتوحشة التي تخلو من أبعاد واعتبارات إنسانية اجتماعية، مقابل ميل شعبي نحو رأسمالية معتدلة أو المزيج الرأسمالي الاشتراكي وهو المطبق في الدول الإسكندنافية. ومن ثم أيضًا، يؤشر فوز ممداني إلى بداية النهاية للنخب السياسية التقليدية المحتكرة للقرار، والمتحالفة مع أباطرة الرأسمالية حتى داخل الحزب الديمقراطي، مقابل جيل جديد من الشباب الرافض للرأسمالية المتطرفة. 

 قصارى القول، انتصار ممداني يؤشر بالفعل إلى حقبة جديدة لأمريكا، حقبة الانسلاخ عن الرأسمالية المتوحشة، والانسلاخ عن التحيز الديني والعرقي، حقبة النخب الشبابية الجديدة، حقبة التجديد الفكري الشامل داخل الحزبين، خاصة الديمقراطي. وبالقطع ستواجه هذه الحقبة بحرب وتحديات شديدة الضراوة، خاصة من النخبة المالية المحتكرة، واللوبي الصهيوني، لكن فيما يبدو أن التداعيات القاسية للرأسمالية المتوحشة قد خلقت كراهية شديدة للنخب السياسية والسياسات التقليدية والأفكار والتحيزات المتجذرة لدى أغلب الأمريكيين.

مساحة إعلانية