رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

516

د. خالد وليد محمود

ما بعد الجسد.. هل يمكن للوعي أن ينجو رقمياً؟

12 مايو 2025 , 02:00ص

لم يعد التفكير في «تحميل الوعي» أو «العيش الرقمي» حكرًا على الخيال العلمي، بل أصبح موضوعًا يحظى باهتمام متزايد في الأوساط الأكاديمية والتقنية. فمع التقدم الهائل في علوم الأعصاب الحاسوبية، وواجهات الدماغ-الحاسوب، والذكاء الاصطناعي، باتت الفكرة تُناقش بوصفها أحد المسارات الممكنة لتطور العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. تتعمق اليوم فرضية أن العقل البشري ليس سوى شبكة من الأنماط العصبية القابلة للتحليل والمحاكاة، وأن الإدراك والذاكرة والشعور بالذات يمكن – نظريًا – إعادة إنتاجها رقمياً داخل بيئات اصطناعية. في هذا الأفق، تلوح إمكانيات غير مسبوقة: أن تنتقل الحياة من الجسد إلى السحابة، وأن يعيش الإنسان، بشكل أو بآخر، بعد الموت البيولوجي في عالم رقمي محوسب.

بعيدًا عن أطروحات نظرية المحاكاة، يكتسب هذا التوجه العلمي زخمًا متزايدًا، مدفوعًا بتقدم تكنولوجيا واجهات الدماغ-الحاسوب التي تسمح بقراءة الإشارات العصبية وربما إعادة إنتاجها. في مختبرات مثل «مختبر التجسيد الافتراضي» بجامعة «ساسكس»، يعمل الباحثون على بناء بيئات غامرة تُحاكي التجربة الإدراكية البشرية بكل تعقيدها، محاولة محاكاة الشعور بالهوية الذاتية والذاكرة والانفعالات داخل فضاء رقمي. وفي مراكز مرموقة مثل مركز العقول والعقول والآلات التابع لمعهد MIT، تتواصل الجهود لفهم البنية العصبية للذكاء البشري تمهيدًا لمحاكاتها خوارزميًا، الأمر الذي يغذي طموحات «العيش الرقمي» بوصفه مشروعًا علميًا قيد التشكّل.

ورغم أن هذه التصورات لا تزال بعيدة عن التطبيق الكامل، فإنها تفرض تحديات فلسفية وأخلاقية عميقة حول معنى الوعي وحدوده، وحول ما إذا كان بالإمكان فعلاً نقله من بيئة عضوية إلى أخرى رقمية. هل الوعي مجرد نشاط كهربائي يمكن ترميزه؟ أم أنه يتجاوز حدود ما يمكن للآلة إدراكه؟ ماذا يحدث للروح، للنية، للشعور بالزمن والانتماء؟ في قلب هذه الأسئلة يتداخل البعد العلمي بالميتافيزيقي، ويُطرح التوتر بين محاكاة التجربة الإنسانية من جهة، وتجسيدها الحقيقي من جهة أخرى.

تظهر في هذا السياق نماذج تخيّلية مثل «دماغ ماتريوشكا» – بنية افتراضية تعتمد على طاقة نجمية هائلة لإدارة حضارات رقمية بالكامل داخل طبقات حوسبة متراكبة – لتجسّد أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه التصورات من طموح: أن تصبح الحياة ذاتها مشروطة بالبقاء في الذاكرة الرقمية، لا في الجسد، وأن تصبح «الهوية» شيئًا قابلاً للنسخ والتعديل والحفظ. ولكن هذه الرؤى – رغم إبهارها – تثير أيضاً قلقاً وجودياً مشروعاً: هل يكفي أن تُحاكى الذاكرة والسلوك لكي نقول إننا ما زلنا أحياء؟ أم أن الإنسان يتجاوز مجرد أنماط يمكن تمثيلها رقمياً؟

هنا تبرز الرؤية الدينية كخطاب موازٍ يرفض اختزال الإنسان في بيانات قابلة للترميز. في التصور الديني، لا يُختزل الوعي في تفاعلات عصبية ولا في رموز خوارزمية، بل هو متصل بنفخة إلهية، وبمصير يتجاوز الحياة المادية. الموت ليس مجرد توقف للوظائف البيولوجية، بل انتقال إلى طور آخر من الوجود لا يمكن للتكنولوجيا إدراكه أو تمثيله. وعليه، فإن كل محاولات «تحميل الوعي» تبقى، في أفضل الأحوال، محاولات لمحاكاة القشرة الظاهرة من التجربة الإنسانية، دون النفاذ إلى جوهرها الروحي.

ورغم كل التقدم في أدوات المحاكاة، تظل هناك فجوة لا يمكن ردمها بسهولة بين ما يمكن للآلة أن تحققه، وما يجعل الإنسان إنسانًا حقًا: الشعور بالمعنى، القدرة على التأمل، الإيمان، الحيرة، التوق إلى الخلود بمعناه الأخلاقي والروحي، لا الرقمي فقط. صحيح أن الخوارزميات قد تتمكن من إعادة إنتاج السلوك البشري، وربما المشاعر المصطنعة، لكن هذا لا يعني أننا نقلنا «الوعي» فعلاً، بل أننا بنينا «مرآة» رقمية له، بلا ذات ولا عمق.

إن التقدم الهائل في علوم الدماغ والواجهات الذكية والبيئات الافتراضية يفتح أمام البشرية أبوابًا جديدة لإعادة تعريف الذات والوجود، ليس فقط من منظور تكنولوجي، بل من منظور وجودي عميق. لم يعد الإنسان مجرد كائن بيولوجي يخضع لقوانين الفناء، بل مشروعًا مفتوحًا لإعادة التشكيل، يمكن له أن يتجاوز حدوده الجسدية ويتجسد في صور جديدة من الوجود الرقمي. ومع ازدياد الحديث عن تحميل الوعي والعيش الرقمي، يدخل الإنسان مرحلة جديدة من الحوار مع ذاته، تتجاوز الأسئلة التقليدية حول الهوية والمصير، لتطرح إشكاليات أكثر جذرية: من نحن حين نُفصل عن أجسادنا؟ هل يمكن للهوية أن تبقى متماسكة إذا ما انتُزعت من سياقها العضوي وزُرعت في بيئة صناعية؟ هل يكفي أن تبقى أنماط وعينا محفوظة في خوادم ذكية، حتى نستحق أن نُسمى «أحياء»؟ وما الذي يجعل الوعي حيًّا أصلًا: استمرارية البيانات، أم الحضور الذاتي والشعور الأخلاقي والقدرة على المعاناة والأمل؟

في هذه اللحظة، لا يواجه الإنسان فقط تحدي التكنولوجيا، بل تحدي المعنى. فالمسألة لا تتعلّق بإمكانية العيش الرقمي بوصفه إنجازًا علميًا، بل بقدرته على احتواء عمق التجربة الإنسانية بما فيها من هشاشة وغموض وشعور بالتجاوز.

ربما تمنحنا هذه التقنيات امتدادات غير مسبوقة للوجود، وقد نتمكن من محاكاة جوانب من إدراكنا داخل أنظمة رقمية فائقة الذكاء. لكن ما لا يجب أن نغفله وما نؤكد عليه هو أن الإنسان، في جوهره، ليس مجرد كائن معلوماتي. الوعي ليس فقط ما نعرفه، بل ما نجهله عن أنفسنا، وما نشعر به ولا نستطيع ترجمته. وبينما تتسابق التقنيات لمحاكاة الإنسان، تذكرنا الروح بأن هناك دائمًا ما يفلت من المحاكاة وهو: المعنى.

اقرأ المزيد

alsharq تقاليع نرفضها رفضاً قاطعاً

في الماضي لم نكن نسمع في قطر هوس الــ (تيك توك) ولا تقاليع الـ (سناب شات) ولا ترند... اقرأ المزيد

12

| 28 ديسمبر 2025

alsharq إنجاز عربي تاريخي

في لحظة ثقافية فارقة، أعلن عن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، المشروع العلمي العربي الأضخم من نوعه،... اقرأ المزيد

9

| 28 ديسمبر 2025

alsharq معجم الدوحة…. سيرة ومسيرة

شهدت قاعة كتارا في فندق فيرمونت في مدينة الوسيل حضورًا استثنائيًا رفيع المستوى لا مثيل له من المثقفين... اقرأ المزيد

12

| 28 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية