رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

609

سعدية مفرح

ويسألونك عن الحنين

13 يناير 2025 , 02:00ص

هو تلك اليد الخفية التي تمتد من أعماق القلب لتطرق أبواب الذاكرة، فيفيض منها عطر الأماكن التي غادرناها، وأصوات الأحبة الذين رحلوا، ولحظات توقفت عقارب الزمن عندها لتبقى حية في وجداننا.

هو الشعور الذي يشبه غناء الريح في ليالي الشتاء، أو ارتجاف الضوء في المساءات القديمة، حيث يسكن الوجع والحب جنباً إلى جنب، فيُولد منهما شوق نقي لا يعرف الخيانة.

هو البكاء الصامت للروح وهي تحاول أن تعود إلى ما لا يُعاد، وأن تلمس ما أصبح سراباً، فتكتفي بالذكريات كقصيدة لا تنتهي.

هو ارتعاشة القلب كلما همس في أذنك صوت ماض بعيد، هو ذلك الإحساس الذي يشبه الوقوف على حافة حلم قديم، تخشى أن تستيقظه فتتلاشى ألوانه.

هو الرسالة التي لا تصل، والرسام الذي يرسم تفاصيل وجه غائب بحبر الدموع، والنداء الذي تسمعه حين يسكن الليل ويصمت العالم، فتُصغي لذكرياتك وهي تعزف ألحانها على وتر الزمن.

هو وطن صغير تحمله في داخلك، مهما ابتعدت عن أرضه، يظل ينبض فيك كقلب إضافي، يشهد أنك عشت هناك، وأن جزءاً منك بقي حيث كنت، يرفض أن يكبر، يرفض أن ينساك.

هو عناق الزمن الذي لا تراه، لكنه يحتضنك بقوة في لحظة ضعف، يذكّرك بأن الماضي ليس مجرد وقت مضى، بل هو قصة محفورة في أعماقك، بكل تفاصيلها، بأفراحها وأحزانها.

هو ذلك الوجع الحلو الذي يعلمك أن الحب لا يموت، بل يتخفى في ثنايا الذكريات، في زقزقة عصافير الصباح، في رائحة الخبز الذي صنعته يد أمك، في ضحكة صديق رحل دون وداع.

هو مرآة خفية ترى فيها نفسك حين كنت أكثر براءة، أكثر اندفاعاً، أكثر صدقاً. وفي كل مرة تنظر إلى تلك المرآة، تشعر بالدفء، حتى لو امتزج بدمعة.

هو الحكاية التي ترويها النجوم للسماء حين تسهر الليل وحيدة، هو أغنية بعيدة تسمعها من نوافذ القلب الموصدة، فتفتحها على مصراعيها لتدخل الريح محملة برائحة المطر الأول وأوراق الخريف التي تساقطت منذ زمن. إنه يشبه النظر إلى صور قديمة؛ حيث الوجوه مألوفة لكن الزمن تغير، وكأنك تحاور نسخة منك نسيتها في ركن بعيد من الحياة.

هو المسافة بينك وبين ظلك حين تحاول اللحاق بخطواتك الماضية، هو ذلك السؤال الذي يطاردك: «كيف كنا؟ وكيف أصبحت الأيام؟»، فهو شعور يشبه الغربة في مكان مألوف، لأن قلبك يسافر دائماً إلى أماكنه الأولى.

هو وجع ناعم لا يصرخ، لكنه يهمس في كل مرة تشتاق فيها إلى دفء بيت قديم، أو إلى حضن جدتك الذي كان يحتضن العالم كله، أو إلى شارع صغير كنت تعرف كل حجارة رصيفه.

هو حديث الروح مع الزمن، حيث الكلمات ليست كافية، فيتحول الشعور إلى طيف يزورك في أحلامك، يربّت على كتفك ويقول: «ما زلت هنا، ولن أتركك».

هو قصيدة لم تكتمل، أبياتها عالقة بين حبر الماضي وبياض الحاضر. هو المطر الذي يهطل في قلبك فجأة، دون موعد، ليغسل جفاف الروح، لكنه يترك خلفه بركاً من الذكريات، تنعكس فيها وجوه وأماكن وأوقات لن تتكرر.

هو ذلك الضوء الخافت الذي ينبعث من نافذة الذاكرة، يقودك نحو دروب قديمة تعرفها جيداً، لكنها الآن مهجورة، إلا من صدى خطواتك وأنت تبحث عن نفسك هناك.

هو شعورك حين تلمس شيئاً بسيطاً ككتاب قديم أو قطعة قماش، فيفيض من بين أصابعك بحر من اللحظات التي لم تكن تدرك قيمتها حين عاشتها.

هو طفل صغير بداخلك، لا يكبر مهما مرت السنين، يركض خلف الطفولة، يلاحق الفراشات، يجلس على درج بيتك القديم منتظراً مغيب الشمس.

هو صديق خفي لا يتركك، يذكرك أن الحياة ليست مجرد حاضر ومستقبل، بل هي أيضاً ماض يسكنك، يهمس في أذنك، ويقول لك إن كل ما مضى، بكل جماله وألمه، كان جزءاً من حكايتك.

وكلما حاولت الهروب منه، يعود بقوة، كالريح التي تعبث بأوراق الشجر، ليوقظ فيك الحنين ليس فقط لما كان، بل لمن كنت، في تلك اللحظات التي لا تتكرر إلا في أحلامك.

هو ليس مجرد إحساس عابر أو ذكرى تتهادى في زوايا الروح، بل هو الحياة ذاتها وهي تلتفت إلى الوراء، تبتسم بحب، وتبكي بصمت. إنه الخيط الرفيع الذي يربط حاضرنا بماضينا، يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر وفاءً لما كنا وما أحببنا.

هو الزهرة التي تنمو في حقل الذكريات، رغم قسوة الزمن، تنشر عبيرها كلما اشتدت بنا الوحشة أو أرهقنا الركض في طرقات المستقبل. في الحنين، نجد أنفسنا من جديد، ونكتشف أن ما مضى لم يرحل حقاً، بل يعيش فينا، ينبض في أعماقنا، ويجعلنا نتذكر أن أعظم جمال الحياة يكمن في تفاصيلها البسيطة التي لم نلتفت إليها إلا بعد أن أصبحت مجرد ذكرى.

الحنين ليس ضعفاً كما يظنه البعض، بل قوة الروح وهي ترفض أن تنكر جمال ما كان. إنه بوصلة القلب التي تشير دائماً إلى البدايات الأولى، إلى الجذور، إلى اللحظات التي شكلتك وجعلتك كما أنت.

مساحة إعلانية