رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في الآونة الأخيرة زادت مطالب بعض الجهات الدولية بإلغاء نظام كفالة الأجانب المعمول به في بعض دول الخليج ودولة قطر باعتبار أن هذا النظام يعمل على ربط شرعية إقامة العامل الوافد بصاحب العمل أو(الكفيل) بما لا يمكن للعامل الوافد تغيير عمله أو وظيفته دون موافقة كفيله إلا في حالات استثنائية وبإذن صريح من الجهة المختصة وأنه لكي يستطيع العامل الوافد المغادرة يتعين عليه الحصول على تأشيرة خروج من كفيله.
ولكي نبحث موضوع نظام الكفالة بتعمق أكثر نقرر منذ البداية أن نظام كفيل الإقامة المعمول به في التشريع القطري وفقاً للقانون رقم 4 لسنة 2009 يستمد نشأته وتقريره وتطبيقه من ضرورات واقعية، أمنية واجتماعية واقتصادية تعطي للدولة حقاً كاملاً في صيانة أمنها وكيانها وهويتها، وهو حق معترف به لجميع الدول وفقاً لمبادئ القانون الدولي والمعاهدات الدولية.
ونظام الكفالة يعد إجراءً إدارياً قصد به تنظيم وضبط مركز الوافد فيما يتعلق بإقامته في الدولة في إطار التدابير والإجراءات والضمانات القانونية التي تهدف في الأساس لممارسة الدولة لحقوقها المشروعة في فرض سلطانها وهيمنتها من أجل حماية المجتمع القطري وكيانه من أي خطر قد يتعرض له، لاسيما مع وجود هذا الزيادة الكبيرة في أعداد الوافدين التي تجاوزت 85% من المواطنين القطريين.
إذن من حق الدولة التي يقيم على أرضها ما يجاوز 85% مقيم أجنبي غير قطري، أن تضع قيوداً لحماية أمنها واستقرارها، كما أنه من حق صاحب العمل في هذه الدولة أن يشعر بالأمان، ومن حق الوافد الأجنبي أيضاً أن يعيش حياة كريمة وأن يتمتع بكافة الضمانات والحقوق التي تحفظ له كرامته وحقوقه.
من هنا وفي ضوء هذه المعادلة لا يمكن القبول بأي إملاءات أو إجراءات تُفرض من الغير على أي دولة فيما يمس أمنها واستقرارها الاجتماعي والديموغرافي بل إن الدولة المعنية هي القادرة على إصدار التشريعات اللازمة التي ترى فيها ملاذ حمايتها وحماية مواطنيها، وبالتالي فإن المناداة بإلغاء نظام كفالة الوافدين والذي يعتبر – في اعتقادنا – صمام أمن واستقرار الدولة والمجتمع القطري، هذه المناداة تستحق الدراسة، ذلك أن نظام الكفالة أثبت فاعليته وجدواه طيلة العقود الماضية واستطاعت الدولة التحكم والسيطرة على قطاع العمالة الوافدة بما انعكس إيجاباً على الدولة والكفلاء والمكفولين ووفر الطمأنينة والاستقرار لأصحاب الأعمال وللعاملين المكفولين على حدٍّ سواء، ولا يقدح في كل ذلك حدوث بعض السلبيات وتلاعب بعض أصحاب النفوس الضعيفة بمخرجات هذا النظام واستغلاله لمصالحهم الخاصة. وقد تكفلت التشريعات المعمول بها حالياً في الدولة بمعاقبة الكفيل في حالة ما إذا شكل فعله هذا مخالفة أو جريمة أو ذنبا سواء من الناحية الجنائية أو المدنية، ويستطيع المكفول أيا كانت صفته أن يقاضي كفيله أمام الجهات المختصة.
صفوة القول أن المشرع القطري عندما أوجب على كل وافد أجنبي يريد الإقامة في البلاد، أن يكون له كفيل قطري إنما قصد من ذلك تنظيم وضبط مركز الأجنبي فيما يتعلق بإقامته في الدولة ضمن الأطر التي تهدف في الأساس إلى ممارسة الدولة لحقوقها المشروعة في فرض سيادتها وسلطتها من أجل حماية المجتمع القطري ولم تقصد من هذا الإجراء الإساءة إلى العامل الوافد أو الانتقاص من حقوقه أو كرامته لأنه مع غياب الضوابط والشروط التي تحدد إقامة الأجانب في الدولة ومنها أن يكون لكل أجنبي كفيل إقامة قطري، سوف تعم الفوضى والاضطراب مما سوف تبرز معه العديد من المشكلات سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي بما يزعزع الاستقرار في المجتمع القطري. ونؤكد على أن النقد الموجه إلى نظام الكفالة نابع في حقيقة الأمر من عدم إدراك وأهمية هذا الإجراء للمجتمع القطري وخصوصيته فيما يتعلق بالتركيبة السكانية.
قلنا إن بعض ضعاف النفوس من الكفلاء القطريين حولوا نظام الكفالة المعمول به إلى أداة لاستغلال مكفوليهم من العمالة الوافدة عندما يرفض الكفيل إعطاء المكفول موافقة بنقل كفالته إلى شخص آخر والسماح له بالعمل لدى الآخرين ويصر على مغادرة العامل إلى بلده رغم أن هناك فرصة لكي يعمل هذا العامل في الدولة.
والثابت أن المخالفين من الكفلاء القطريين لنظام الكفالة هم قلة شاذة من المواطنين العاديين وأصحاب المؤسسات الصغيرة والشركات الوهمية أما غالبية الكفلاء سواء من الجهات الحكومية أو المؤسسات والشركات والأفراد فهم يعاملون المكفولين المعاملة الإنسانية اللائقة ويعطونهم حقوقهم المالية والمعنوية كاملةً.
والواقع أن القانون رقم 4 لسنة 2009 بتنظيم دخول وخروج الوافدين وإقامتهم وكفالتهم والذي تضمن في الباب الرابع منه المواد التي تنظم كفالة الوافدين اشتمل على عدة إيجابيات خففت الكثير من القيود التي قد يفرضها الكفلاء على المكفولين وهي على النحو الآتي:
أولاً: بموجب المادة (43) من القانون يجوز لوزير الداخلية إصدار سمات ومنح تراخيص إقامة بدون كفيل للفئات التالية:
1- المستثمرون الخاضعون لأحكام القانون رقم (13) لسنة 2000 بتنظيم استثمار رأس المال غير القطري في النشاط الاقتصادي.
2- المالكون والمنتفعون بالعقارات والوحدات السكنية وفقاً لأحكام القانون رقم (17) لسنة 2004 بتنظيم تملك وانتفاع غير القطريين بالعقارات والوحدات السكنية.
3- أي فئات أخرى تحدد بقرار من مجلس الوزراء.
مؤدى ما تقدم أن التشريع القطري سمح لطائفة من الوافدين بالإقامة في الدولة دون كفيل إقامة، كما خول القانون مجلس الوزراء ضم فئات أخرى من الوافدين وإعطاءها رخص إقامة في البلاد دون كفيل.
ثانياً: سمح القانون بنقل كفالة العامل الوافد على أن يكون ذلك باتفاق كتابي بين صاحب العمل الجديد وصاحب العمل السابق للعامل بعد موافقة الجهة المختصة بوزارة العمل بالنسبة للفئات الخاضعة لأحكام قانون العمل.
ثالثاً: واستحدث القانون حالة جديدة لنقل كفالة العامل، إذ أجاز لوزير الداخلية الموافقة على نقل كفالة العامل الوافد بصفة مؤقتة في حالة وجود دعاوى بين الكفيل والعامل الوافد، وللوزير أو من ينيبه الموافقة على نقل كفالة الوافد الذي لا يسري عليه قانون العمل مثل الموظفين والعاملين في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة وخدم المنازل والمستخدمين في الأعمال العارضة إلى رب عمل آخر في حال ثبوت تعسف الكفيل أو إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك. ويجوز للوزير أو من ينيبه بناءً على طلب العامل وموافقة وزارة العمل نقل كفالة العامل الذي يسري عليه قانون العمل إلى رب عمل آخر.
مؤدى ذلك أن المشرع القطري أعطى لوزير الداخلية صلاحية نقل كفالة المكفول إلى صاحب عمل جديد دون موافقة كفيله في الأحوال السابقة.
جميع ذلك يدل على أن المشرع القطري خطا خطوات متقدمة وأدخل تعديلات على نظام الكفالة المعمول به لصالح المكفولين الوافدين.
ومن جهة أخرى فإن القانون عالج مأذونية خروج المكفول في المادة (18) إذ نصت المادة على أنه: "ولا يصرح للوافدين فيما عدا النساء اللاتي على كفالة رب الأسرة والقُصّر والزوار الذين لا تجاوز مدة زيارتهم للدولة ثلاثين يوماً بمغادرة البلاد بصفة مؤقتة أو نهائية إلا بعد تقديم إذن بالخروج من كفيل الإقامة".
ويحل محل هذا الإذن، عند تعذر حصول الوافد عليه لامتناع كفيله من إعطائه له أو لوفاة الكفيل أو لغيابه مع عدم تعيينه وكيلاً عنه، تقديم كفيل خروج، أو شهادة بعدم وجود أحكام تحت التنفيذ أو دعاوى مطالبة ضد الوافد، تصدر من المحاكم المختصة بعد مضي خمسة عشر يوماً من تاريخ الإعلان في صحيفتين يوميتين لمرة واحدة من تاريخ مغادرة الوافد للبلاد، وذلك وفقاً للإجراءات والضوابط التي يصدر بها قرار من الوزير.
المستفاد من هذا النص أن المشرع القطري قرر ضرورة حصول المكفول قبل مغادرته البلاد على إذن خروج مكتوب من كفيله، ولا يستطيع المكفول مغادرة البلاد إلا بحصوله على هذا الإذن (مأذونية الخروج) إلا أنه بالمقابل وضع بدائل أخرى في حالة ما إذا امتنع الكفيل أو تعذر حصول المكفول على الإذن.
والحقيقة أن البدائل التي أوردها المشرع في المادة (18) تحتاج إلى إعادة نظر لتمكين المكفول من الحصول على إذن الخروج بسرعة وحتى لا يكون عُرضةً لإجراءات طويلة ومعقدة تمنعه من السفر وطالما أن المشرع قرر الاستغناء عن موافقة الكفيل على مأذونية خروج مكفوله سواء لرفضه أو غيابه فإنه يتعين وضع آلية سريعة لتمكين المكفول من السفر فوراً.
وفي اعتقادي الخاص أن إيجاد آلية سريعة لحصول المكفول على مأذونية خروج في حالة رفض الكفيل ذلك أمر تحتمه المصلحة العامة للدولة وهو إجراء من المهم تحقيقه بتخصيص جهة محددة بوزارة الداخلية تختص بإصدار مأذونيات خروج الوافدين فوراً وبعد التحقق من عدة بيانات للوقوف على أسباب امتناع الكفيل عن التوقيع على مأذونية خروج مكفوله.
وفي جميع الأحوال إذا ما ثبت أن الكفيل قد تعسف أو تعمد عدم التوقيع على مأذونية خروج المكفول فلابد من مؤاخذته عن هذا التصرف.
وتبقى نقطة أخيرة ومهمة يتعين علاجها وهي مسألة نقل كفالة العامل الوافد من كفيل لآخر.
أوضحنا أن القانون الحالي لتنظيم دخول وخروج الوافدين وإقامتهم وكفالتهم اتخذ خطوات مهمة نحو إصلاح نظام الكفالة حين ذهب المشرع القطري في المادة (22) من القانون إلى السماح بنقل كفالة العامل الوافد وكذلك ما تضمنه القانون في المادة (12) من الموافقة على نقل كفالة العامل الوافد في حال ثبوت تعسف الكفيل أو إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.
مؤدى ذلك أن المشرع القطري عمل على تخفيف القيود التي تحد من نقل الكفالة للعمال الوافدين لأسباب حددها القانون على النحو الذي أشرنا إليه سلفاً.
وبالنظر إلى أن القانون أو التشريع الذي يحكم إقامة وتنقل الأجانب أو الوافدين أو المهاجرين في معظم الدول تحتاج قواعده إلى المراجعة الدائمة والتعديل والإضافة وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة للدولة، وهو من أكثر القوانين واللوائح التي من الضروري مراجعتها بين فترة وأخرى. وتعتبر هذه القوانين الأهم التي توفر الاستقرار والطمأنينة لكافة شرائح المقيمين في الدولة ومعرفة حقوقهم وواجباتهم والضمانات المقررة لهم وكذلك ما يتوجب عليهم الالتزام به لتأتي إقامتهم مشروعة ومتفقة مع التشريعات النافذة في الدولة.
وأرى كخطوة أولى متقدمة ضرورة إصدار تعديل تشريعي يعطي المكفول الحق في نقل كفالته من كفيله إلى صاحب عمل آخر بعد انقضاء فترة يحددها المشرع القطري، بما يسمح للعامل بنقل كفالته بعد مرور تلك الفترة دون موافقة كفيله على أن تتولى وزارة الداخلية إصدار تلك الموافقة بعد تأكدها من عدم وجود موانع قانونية تمنع من ذلك على أن يسري هذا التعديل على جميع المكفولين الخاضعين لقانون العمل.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
135
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
216
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
57
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5049
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3675
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2796
| 21 أكتوبر 2025