رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تحتفل تركيا هذه الأيام بمرور 8 سنوات على انتصار الشعب التركي على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قامت بها منظمة فيتو الإرهابية (FETÖ)، * وهي ليست منظمة إرهابية فحسب، بل هي أيضًا منظمة تجسس «بصبغة دينية» بقيادة فتح الله غولن* في الخامس عشر من يوليو/تموز 2016، في محاولة منها للعودة بالدولة وشعبها إلى المربع الأول حيث عدم الاستقرار السياسي والأمني تحت الانقلابات العسكرية التي عانت منها البلاد عقوداً ممتدة، في ظل الممارسات التي تقوم بها هذه المنظمة تحت ستار الدين والتعليم.
كانت هذه المحاولة الغادرة تريد عزل تركيا عن محيطها الإقليمي وتحجيم دورها الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المظلومة، ومن ثم تعود دولة هامشية غير مؤثرة، ولم تكن خطة الانقلاب صناعة محلية فقط، فهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى تورط العديد من الأطراف الدولية فيها، لكن وقفة الشعب التركي البطولية في تلك الليلة أجهضت هذه المؤامرة وحافظت على الدولة ومقدراتها من الانهيار.
فالشعب التركي الأبي لم ينس نتائج الحكم العسكري، كما لم ينس الآلاف من ضحايا الانقلابات السابقة بين شهيد ومعتقل، فقرر ألا يسمح بتكرار تلك المأساة، وواجه مدرعات الانقلابيين بصدور عارية، ونجح في طردها من الأماكن التي استولت عليها، مدعوما بقوات الشرطة والقوات المسلحة التي رفضت الانحياز للانقلابيين، مع وجود قيادة حازمة واعية، قادت الشعب بعزم وثبات وكانت في قلب المواجهة.
إن هذه المحاولة الفاشلة التي سقط بسببها نحو 250 شهيدًا، واكثر من 2000 مصاب ممن قدموا أرواحهم ودماءهم دفاعاً عن الوطن، كشفت للجميع أنها لم تكن تستهدف فقط شخص الرئيس رجب طيب أردوغان أو أركان حكومته فحسب، بل كانت تستهدف الديمقراطية التركية بوجه عام، تلك الديمقراطية التي أصبحت نموذجًا ملهمُا للعديد من شعوب ودول المنطقة، وهو ما شهده العالم شرقه وغربه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تمت في مايو/ أيار 2023، وكذلك في الانتخابات البلدية التي تمت في مارس/ آذار 2024، والتي كانت مثالاً حياً على التنافسية والتعددية والنزاهة والشفافية، بدليل تأرجح النتائج بين لحظة ولحظة، ودليلاً على وعي الشعب وقدرته على الدفاع عن حريته وحرصه على التعبير عن رأيه، في تجربة تشهد أعلى نسبة مشاركة في العالم المعاصر.
ولولا صلابة النظام السياسي والاجتماعي التركي، ومن خلفه الشعب الواعي، ما استطاعت مؤسسات الدولة إدارة تداعيات كارثة الزلزال الذي شهدته البلاد في فبراير/ 2023، والتي نالت من أمن وأمان الملايين، لكن القيادة السياسية والمدنية الواعية، وتكاتف الشعب بكل فئاته ومكوناته، كان حائط صد قويا في مواجهة الكارثة، وقبل أن يمر العام الأول بعد الكارثة كان فخامة الرئيس في مناطق الزلزال يقوم بتسليم الأهالي، مساكنهم الجديدة، وما كان هذا ليحدث بهذه السرعة والكفاءة والفاعلية لو كانت المحاولة الانقلابية قد نجحت، ودمرت منجزات الدولة ومؤسساتها.
وعلى الرغم من التداعيات السلبية للمحاولة الانقلابية، وخروج مليارات الدولارات من البلاد، وتداعيات أزمة كورونا العالمية، وكارثة الزلزال، ها هو ذا الاقتصاد التركي يواصل نموه وتطوره بين أكبر 20 اقتصادًا على مستوى العالم، وتخرج تركيا من الدائرة الرمادية في التصنيفات الاقتصادية، ورفعت المؤسسات الدولية توقعاتها لمعدل النمو في تركيا خلال العام الجاري 2024، كما قفزت الصادرات التركية خلال العام 2023 لتصل إلى 260 مليار دولار.
وعادت تركيا لتشهد تدفقًا للسياح من كل بقاع العالم، حيث كانت وستظل وجهتهم المفضلة، وخاصة مع حرص القيادة التركية على التصدي للحالات الفردية التي تسعى لتشويه صورة البلاد وتستهدف ضرب علاقات تركيا مع إخوانها العرب، الذين تربطنا بهم علاقات الدين والتاريخ والمصير المشترك، وتكشف الأرقام الرسمية أن عدد السائحين الذين زاروا تركيا خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2024 نحو 18 مليون سائح.
وبجانب الدور الذي يقوم به قطاع السياحة في الاقتصاد التركي، مثّلت اكتشافات الغاز وبدء التشغيل، وربطه بشبكات التشغيل بارقة أمل في استقلال مصادر الطاقة وتنوعها، وتبشر الاستكشافات المستمرة بالمزيد من آبار الغاز الطبيعي الواعدة في البحر الأسود والبحر المتوسط.
وفي مجال الدفاع، تنامت الصناعات العسكرية التركية لتُؤَمِّن احتياجات البلاد، بل وتقتحم مجال التصدير، حتى أصبحت العديد من البلدان الحليفة والصديقة تسعى لامتلاك السلاح المُصنّع في تركيا، ولعل تنامي الطلب الدولي على الطائرات التركية المسيّرة (بيرقدار) أكبر شاهد على ذلك، كما تم إجراء تجارب الطيران الناجحة لمقاتلتنا الحربية الوطنية «كان « (KAAN)، التي ستدخل الخدمة في السنوات القادمة لتعزز من صقور قواتنا الجوية، كما انطلقت في سمائنا «كيزل ألما» (KIZIL ELMA) أول مسيرة نفاثة محلية الصنع، لتلحق قريبا بالمسيرات التي دخلت الخدمة فعليا في جيشنا «آقينجي» (AKINCI) و»آق صونغور» (AKSUNGUR)، كما دخلت إلى الخدمة أكبر قطعة حربية في أسطول قواتنا البحرية «تي سي جي أناضولو» (TCG Anadolu) كأول حاملة طائرات تركية محلية الصنع بتكنولوجيا فائقة التطور، وتنامت الصناعات العسكرية لتأمين احتياجات البلاد، مع التوسع الكبير في مجال التصدير.
كما شهدت تركيا في السنوات الثماني الماضية نهضة عمرانية كبيرة تخللها إطلاق العديد من المشروعات المهمة، منها اكتمال جسر تشاناكالي 1915 (Çanakkale Köprüsü 1915) كأطول جسر معلق في العالم، فوق مضيق الدردنيل، ونفق أوراسيا (Avrasya Tüneli) الذي يربط الجانبين الأوروبي والآسيوي لإسطنبول تحت مياه مضيق البوسفور، وبجانب الاهتمام بمشروعات البنية التحتية في قطاع النقل، كان الاهتمام بالصناعات التكنولوجية، وجاء تدشين أول سيارة كهربائية تركية الصنع (توغ - TOOG) نهاية العام 2023.
على الصعيد الدبلوماسي، عززت تركيا من دبلوماسيتها النشطة القائمة على أساس من الاحترام المتبادل، وإرساء مبدأ الحوار الثنائي، وتمد بلادنا يد المحبة والسلام لشعوب العالم وللحكومات والمؤسسات الدولية، حتى وصل عدد البعثات الدبلوماسية التركية في الخارج 261 بعثة، تتوزع بين 146 سفارة، و99 قنصلية عامة، و13 ممثلية دائمة، لتصبح تركيا بهذا العدد الضخم من البعثات خامس أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، مع إعطاء أولوية وأهمية كبيرة في العمل الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي للمنطقة العربية بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة، والتأكيد الدائم على أمن هذه المنطقة من أمن تركيا وإحدى الدوائر الأساسية لعمقها الاستراتيجي.
وفي إطار هذه الدبلوماسية النشطة تدعو تركيا دائمًا لتشكيل دعائم نظام عالمي جديد، ينهي الهيمنة ذات القطب الأوحد، «فقد قالها وكررها مراراّ فخامة الرئيس أردوغان: العالم أكبر من خمسة»، ويؤسس لعالم خال من بؤر الإرهاب وظلم الشعوب واحتلالها ونهب ثرواتها، وعززت تركيا هذه التوجهات باعتبارها ثاني أكبر دولة في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
وتؤكد تركيا في علاقتها دائما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، والتأكيد على احترام قواعد القانون الدولي، لذلك جاء انضمام تركيا إلى الدعوى التي حركتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، حتى يكون للقانون القول الفصل فيما قامت به قوات الاحتلال من انتهاكات ضد الفلسطينيين وخاصة في قطاع غزة.
وتأكيداً على الدعم التركي الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، لم تتوقف الجهود السياسية والدبلوماسية بقيادة فخامة الرئيس ووزير خارجيتنا، على مختلف المسارات ومع كل الأطراف، سعيًا نحو الوصول إلى وقف إطلاق النار والحل الدائم للقضية الفلسطينية.
وهنا تجدر الإشارة إلى التنسيق الكامل والدائم بين تركيا وقطر منذ اندلاع الأزمة، في جهود الوساطة وعمليات الإغاثة وتبادل الأسرى، وصولاً إلى ترتيبات إعادة الإعمار.
وبجانب الجهود الدبلوماسية، كانت تركيا أكبر دولة في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية التي دخلت قطاع غزة، حيث بلغت نسبتها 32% من إجمالي هذه المساعدات.
عودة لذي بدء، ومع مرور 8 سنوات على هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، نستذكر شهداءنا الأبرار الذين ضحوا بحياتهم من أجل وطننا العزيز، وسطّروا بدمائهم الذكية طريقا لا نحيد عنه، في الدفاع عن أمن الوطن والمواطنين، والدفاع عن حريتهم وكرامتهما.
ونستذكر أيضاً بكل التقدير والعرفان، وقفة دولة قطر الشقيقة بقيادة صاحب السمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي كان أول زعيم عربي يتصل بفخامة الرئيس أردوغان، مؤكدا رفضه لمحاولة الانقلاب، ودعمه الكامل لتركيا، وهو الموقف الذي تبناه الشعب القطري الأصيل، وشعر به إخوانهم الأتراك الذين يكنون لدولة قطر وشعبها مكانة خاصة، تحمل كل التقدير والعرفان والمودة والاحترام.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4803
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3519
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025