رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في وقت يتزايد فيه الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية كقوة محركة للحروب والصراعات المسلحة، يتناول كتاب "الوحدة إكس: كيف يقوم البنتاغون ووادي السيليكون بتشكيل مستقبل الحروب؟ "Unit X: How the Pentagon and Silicon Valley Are Transforming the Future of War لكاتبيه راج م. شاه وكريستوفر كيرتشوف، موضوعاً في غاية الحساسية حول دور الشراكات المتزايدة بين وزارة الدفاع الأمريكية والشركات التكنولوجية في "وادي السيليكون". يسلط الكتاب الضوء على كيف يعيد هذا التعاون رسم ملامح الحروب من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، والهجمات السيبرانية، مما يجعل الصراع في المستقبل مختلفًا جوهريًا عن الماضي.
يطرح الكتاب الذي يقع في 336 صفحة من القطع المتوسط، رؤية جديدة حول كيفية تغير مشهد الحروب نتيجة التعاون بين وزارة الدفاع الأمريكية وقطاع التكنولوجيا في وادي السيليكون، ويُظهر الأثر المتزايد لتقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة على مستقبل النزاعات العالمية.
فمع تزايد التحديات التي تواجه الجيوش الحديثة في اعتماد التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، يستعرض الكتاب أبرز التطورات الجارية في مجال الحرب التكنولوجية وأثر هذه التقنيات على النزاعات المستقبلية. ويركز الكتاب بشكل خاص على التعاون المتزايد بين الجيش الأمريكي وقطاع التكنولوجيا، وتحديدًا من خلال وحدات مثل DIUx، التي تهدف إلى تجاوز العوائق البيروقراطية لتسريع تبني الابتكارات الحديثة. وعلى الرغم من المزايا الكبيرة لهذه الشراكات، لا تزال هناك تساؤلات أخلاقية جادة، خصوصًا في ظل تردد بعض الشركات التكنولوجية في المشاركة بمشاريع ذات طبيعة عسكرية.
العلاقة بين البنتاغون ووادي السيليكون
إن الجدار الفاصل بين البنتاغون ووادي السيليكون لم يكن دائماً مرتفعاً إلى هذا الحد، فكما هو معروف كان الوادي في وقت ما لا ينفصل عما تسمى بدولة الأمن القومي. وكان قسم الصواريخ والفضاء في شركة "لوكهيد مارتن" أكبر جهة توظيف في وادي السيليكون حتى ثمانينيات القرن العشرين. وخلال تلك الحقبة، كانت شركات التكنولوجيا مثل "فيرتشايلد سيميكونداكتور" تعتمد بشكل كبير على العقود العسكرية، حيث كانت تزود الحكومة بكميات هائلة من رقائق السيليكون لأنظمة التوجيه لصواريخ أبولو وصواريخ مينوتمان الباليستية العابرة للقارات. تغيرت هذه العلاقة التكافلية مع نهاية الحرب الباردة. فعلى مدى عقود من الزمان، كان الإبداع التكنولوجي والصناعي الأمريكي مدفوعا إلى حد كبير بالإنفاق الفيدرالي؛ وفي تسعينيات القرن العشرين، أصبح هذا الإبداع تجاريا ومعولماً على نحو متزايد. وبحلول عام 2019 كانت لكل من أمازون وآبل وجوجل ومايكروسوفت قيمة سوقية أكبر من قيمة صناعة الدفاع الأمريكية بأكملها. وكما يؤكد شاه وكيرشوف في هذا الكتاب، فقد ظل البنتاغون معتمداً على حفنة من شركات المقاولات الدفاعية العملاقة المعروفة باسم "الشركات الرئيسية" ــ شركات مثل رايثيون، ولوكهيد مارتن، ونورثروب جرومان ــ التي كانت تمتلك أنظمة التدقيق والمحاسبة وممارسة الضغوط المعقدة اللازمة للتنقل في عملية الاستحواذ المتشعبة فيه.
يناقش الكتاب مسألة الابتكار التكنولوجي كعامل رئيسي في تعزيز تفوق الجيوش في ساحات القتال، موضحاً أن الدول التي تستثمر في تطوير أنظمة متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، والهجمات السيبرانية ستكون أكثر قدرة على التفوق في المعارك المستقبلية. السباق نحو هذه التقنيات لا يقتصر فقط على المجال العسكري، بل يمتد ليشمل القطاعات الاقتصادية، مما يعزز مكانة الدول المستثمرة في هذه المجالات الاستراتيجية. ويتناول أهمية السيطرة على الفضاء السيبراني كعامل حاسم في النزاعات العسكرية الحديثة، مع تزايد دور الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنى التحتية الحيوية كشبكات الكهرباء والاتصالات. ويشير أيضاً إلى أن السباق المحموم بين القوى العظمى، مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، لتطوير تقنيات متقدمة يعكس صراعًا مستمرًا من أجل الهيمنة العالمية من خلال التفوق العسكري التكنولوجي.
التعاون بين القطاعين المدني والعسكري
يؤكد الكتاب على الدور الحيوي الذي يلعبه التعاون بين الجيش الأمريكي وقطاع التكنولوجيا في تسريع وتيرة الابتكار العسكري. وحدات مثل DIUx تمثل جزءًا مهمًا من هذا التعاون، حيث تسهم في تسهيل تبني التقنيات الحديثة، إلا أن بعض الشركات التكنولوجية تعبر عن ترددها في المشاركة في مشاريع ذات صبغة عسكرية لأسباب أخلاقية، مما قد يبطئ من هذا التعاون.
في عام 2023، فازت الشركات المدعومة من البنتاغون برأس مال استثماري بأقل من 1 % من جميع عقود البنتاغون؛ وتستمر مجموعة صغيرة من المقاولين الرئيسيين في تلقي أموال أكثر بكثير من النظام البيئي الدفاعي المستوحى من وادي السيليكون. لقد أثبتت شركة جنرال إلكتريك، التي كانت ميزانيتها السنوية أقل من طائرة إف-35 واحدة طوال معظم فترة وجودها، أن التكنولوجيا التجارية قابلة للتطبيق في المهام العسكرية. كما أثبتت أن وزارة الدفاع يمكن أن تكون عميلاً واقعيًا للشركات الناشئة. وساعدت في سد الفجوة الثقافية بين وادي السيليكون والجيش. في السنوات الأربع الماضية، تم ضخ ما لا يقل عن 125 مليار دولار من رأس المال الاستثماري في الشركات الناشئة التي تبني تكنولوجيا الدفاع، ارتفاعًا من 43 مليار دولار في السنوات الأربع السابقة. ويعمل العشرات من مسؤولي الأمن القومي السابقين الآن في رأس المال الاستثماري المرتبط بالدفاع أو الأسهم الخاصة كمديرين تنفيذيين أو مستشارين. وبدأت مجموعة متنامية من شركات وادي السيليكون تتحدث بلغة الأمن القومي الأمريكي.
بالمحصلة، يقدم الكتاب نظرة عميقة حول كيفية تحول ساحة المعركة المستقبلية بفعل التطورات التكنولوجية المتقدمة، دون أن يغفل التحديات الأخلاقية والسياسية المترتبة على هذه التحولات، خاصة ما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي والأسلحة ذاتية التحكم في اتخاذ قرارات مصيرية. ومع احتمال استهداف المدنيين من قبل هذه الأنظمة، يصبح التوازن بين تحقيق التفوق العسكري واحترام القيم الإنسانية أمراً حتمياً.
• متخصص في السياسة السيبرانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• متخصص بالسياسة السيبرانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
798
| 16 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بظهور بعض الشخصيات والحركات، المدنية والمسلحة، التي تحاول القيام بأدوار إيجابية أو سلبية، وخصوصا في مراحل بناء الدول وتأسيسها. ومنطقيا ينبغي على مَن يُصَدّر نفسه للقيام بأدوار عامة أن يمتاز ببعض الصفات الشخصية والإنسانية والعملية والعلمية الفريدة لإقناع غالبية الناس بدوره المرتقب. ومن أخطر الشخصيات والكيانات تلك التي تتعاون مع الغرباء ضد أبناء جلدتهم، وهذا ما حدث في غزة خلال «طوفان الأقصى» على يَد «ياسر أبو شباب» وأتباعه!. و»أبو شباب» فلسطيني، مواليد 1990، من مدينة رفح بغزة، وَمَسيرته، وفقا لمصادر فلسطينية، لا تُؤهّله للقيام بدور قيادي ما!. ومَن يقرأ بعض صفحات تاريخ «أبو شباب»، الذي ينتمي لعائلة «الترابية» المستقرة في النقب وسيناء وجنوبي غزة، يجد أنه اعتُقِل في عام 2015، في غزة، حينما كان بعمر 25 سنة، بتهمة الاتّجار بالمخدّرات وترويجها، وحكم عليه بالسجن 25 سنة. وخلال مواجهات «الطوفان» القاسية والهجمات الصهيونية العشوائية على غزة هَرَب «أبو شباب» من سجنه بغزة، بعدما أمضى فيه أكثر من ثماني سنوات، وشكّل، لاحقا، «القوات الشعبية» بتنسيق مع الشاباك «الإسرائيلي»، ولم يلتفت إليها أحد بشكل ملحوظ بسبب ظروف الحرب والقتل والدمار والفوضى المنتشرة بالقطاع!. وبمرور الأيام بَرَزَ الدور التخريبي لهذه الجماعة، الذي لم يتوقف عند اعترافها بالتعاون مع أجهزة الأمن «الإسرائيلية» بل بنشر التخريب الأمني، والفتن المجتمعية، وقطع الطرق واعتراض قوافل المساعدات الإنسانية ونهبها!. وأبو شباب أكد مرارًا أن جماعته تَتَلقّى الدعم «دعماً من الجيش الإسرائيلي»، وأنهم عازمون على «مواصلة قتال حماس حتى في فترات التهدئة»!. وهذا يعني أنهم مجموعة من الأدوات الصهيونية والجواسيس الذين صورتهم بعض وسائل الإعلام العبرية كأدوات بديلة لتخفيف «خسائر الجيش الإسرائيلي باستخدامهم في مهام حسّاسة بدل الاعتماد المباشر على القوات النظامية»!. ويوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2025 أُعلن عن مقتل «أبو شباب» على يد عائلة «أبو سنيمة»، التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث: وأنهم «واجهوا فئة خارجة عن قيم المجتمع الفلسطيني». وبحيادية، يمكن النظر لهذا الكيان السرطاني، الذي أسندت قيادته بعد مقتل «أبو شباب» إلى رفيقه «غسان الدهيني» من عِدّة زوايا، ومنها: - الخيانة نهايتها مأساوية لأصحابها، وماذا يَتوقّع أن تكون نهايته مَن يَتفاخر بعلاقته مع الاحتلال «الإسرائيلي»؟ - دور جماعة «أبو شباب» التخريبي على المستويين الأمني والإغاثي دفنهم وهم أحياء، مِمّا جعل مقتل «أبو شباب» مناسبة قُوْبِلت بالترحيب من أكثرية الفلسطينيين وغيرهم. - مقتل «أبو شباب» يؤكد فشل الخطة «الإسرائيلية» بجعل مجموعته المُتَحكِّم بمدينة «رفح» وجعلها منطقة «حكم ذاتي» خارج سيطرة المقاومة، وبهذا فهي ضربة أمنية كبيرة «لإسرائيل» التي كانت تُعوّل عليهم بعمليات التجسّس والتخريب. - قد تكون «إسرائيل» تَخلّصت منه، قبل إرغامها، بضغوط أمريكية، على المضي بالمرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار وذلك بتركه ليواجه مصيره كونه قُتِل بمنطقة سيطرة جيشها!. - الحادثة كانت مناسبة لدعم دور المقاومة على أرض غزة، ونقلت هيئة البثّ «الإسرائيلية»، الأحد الماضي، عن مصادر فلسطينية أن «مسلحين ينتمون لمليشيات عشائرية معارضة لحماس سَلّموا أنفسهم طواعية لأجهزة (حماس) الأمنية في غزة». منطقيًا، لو كانت جماعة «أبو شباب» جماعة فلسطينية خالصة ومنافسة بعملها، السياسي والعسكري، للآخرين بشفافية وصدق لأمكن قبول تشكيلها، والتعاطي معه على أنه جزء من المشاريع الهادفة لخدمة القطاع، ولكن حينما تَبرز خيوط مؤكدة، وباعترافات واضحة، بارتباط هذا الكيان وشخوصه بالاحتلال «الإسرائيلي» فهنا تكون المعضلة والقشّة التي تَقصم ظهر الكيان لأن التعاون مع المحتل جريمة لا يُمكن تبريرها بأيّ عذر من الأعذار. مقتل «أبو شباب» كان متوقعا، وهي النهاية الحتمية والسوداء للخونة والعملاء الذين لا يَجدون مَن يُرحب بهم من مواطنيهم، ولا مَن يَحْتَرِمهم من الأعداء، ولهذا هُم أموات بداية، وإن كانوا يمشون على الأرض، لأنهم فقدوا ارتباطهم بأهلهم وقضيتهم وإنسانيتهم.
657
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.
642
| 14 ديسمبر 2025