رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كانت الدبلوماسية القطرية شديدة الوضوح إزاء جرائم الإبادة في غزة حين قال معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن رئيس مجلس الوزراء يوم الثلاثاء أمام وزير خارجية الولايات المتحدة بأن الاستعجال اليوم هو إجبار نتانياهو على إيقاف القصف والتدمير حتى يقتنع العالم أن حلولا سلمية أصبحت ممكنة وبالطبع يندرج هذا الموقف ضمن حرص حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر على شرعية المقاومة وفي المقابل مروق إسرائيل عن القانون الدولي والأخلاق . و من جهة أخرى كثيرا ما نقرأ ونسمع مسؤولين أو مدونين أو أكاديميين عربا يقولون (عن حسن أو سوء نية): "ارتكبت حماس خطأ العمر لأنها لم تقرأ حسابا لردة الفعل الإسرائيلية أو لم تتصور حرب إبادة جماعية بلغ عدد ضحاياها الى مطلع شهر مارس 2024 حوالي 32 ألفا جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن مع قتل الصحفيين وعائلاتهم والكوادر الطبية والمسعفين وموظفي الأونروا ثم تحول الإرهاب الرسمي الإسرائيلي الى الإبادة الجماعية والتصفية العرقية التي تغيرت اليوم فأصبحت بسلاح التجويع وقطع المياه للقتل جوعا وعطشا ومنع وصول الوقود لتعطيل كل مرافق الحياة وطبعا كل هذه الفظائع تحدث على المباشر لأول مرة في التاريخ الحديث بفضل شبكة الجزيرة التي صنفها العنصريون في حكومة نتانياهو كشريكة في المقاومة لأنها هي التي قلبت موازين الرأي العام العالمي وأخرجت مظاهرات مليونية في العواصم الغربية وأحيت الضمائر الراقدة الى درجة عملية إحراق الضابط الأمريكي الشريف (أرون بوشنيل) نفسه أمام سفارة إسرائيل في واشنطن في حركة تضامن واحتجاج تاريخية لم يسبق لها مثيل! إلى درجة قال عن الجزيرة أمين عام حزب شاس الفاشي: "قطر انحازت من اليوم الأول إلى جانب حماس"! وهو على حق إنما تناسى أن يضيف بأن قطر كانت دائما ولا تزال إلى جانب الحق والشرعية الدولية ومن أكبر أنصار السلام كما قال حضرة صاحب السمو أميرها حفظه الله في البيان المشترك بين قطر وفرنسا أثناء زيارة الدولة التي أداها سموه منذ أيام الى باريس فقد أوضح لمضيفه الرئيس ماكرون أن قطر تشترك مع فرنسا في ضرورة إيجاد الحلول السلمية لكل أزمات العالم. نعود الى ما بدأنا به مقالنا هذا فنقول: لم يعرف تاريخ الصراع الظالم بين الاستكبار اليهومسيحي وبين المستضعفين من دار الإسلام ومن ديار افريقيا وآسيا شعبا واحدا تحرر بلا مقاومة وبدون دفع دماء شهدائه وأحراره ثمنا لحريته ولم يقل لهذه الشعوب أحد إنكم أخطأتم وضحيتم بأحراركم الأبرياء مقابل نصركم على الطواغيت! فاقرأوا تاريخ الجزائر من 1830 الى 1962 لتدركوا أن مليون ونصف من الشهداء لم يرقوا الى كنف مولاهم عبثا أو سدى بل هم الذين عمدوا بدمائهم الطاهرة الزكية استقلال بلادهم التي قال فيها شيخها عبد الحميد بن باديس:
شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُــسْــلِــمٌ وَإِلىَ الْـعُـرُوبَةِ يَـنْتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ
أَوْ رَامَ إِدْمَــــــاجًـــــا لَــــهُ رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
يَـا نَـشْءُ أَنْــتَ رَجَــاؤُنَـــا وَبِـكَ الصَّبَـاحُ قَـدِ اقْـتَرَبْ
خُـــذْ لِلْـحَــيَــاةِ سِــلاَحَــهَـا وَخُـضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ
اليوم يعترف المؤرخون بأن المنظرين الحقيقيين للثورة الجزائرية هم فقهاء جمعية العلماء المسلمين أمثال رائدها الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي فكانت قيم الإسلام هي المحركة لهمة الشعب الجزائري المسلم لأن الإسلام كان ولا يزال هو الجامع لكل أفراد الشعب من عرب وأمازيغ تخطى بهم الفوارق العرقية ووحد جهودهم للتخلص من استعمار صليبي طلع كالمارد السحري من القمقم من رحم الحملات الصليبية القديمة ليثأر من الإسلام. واقرأ كذلك أيها القارئ الكريم تاريخ كفاح اسطوري قام به الشعب الفيتنامي منذ مقاومته للاستعمار الفرنسي عام 1952 وانتصاره على جيش قوي مجهز بآلياته الفتاكة في معركة (ديان بيان فو) الشهيرة وتقهقر الجيش الفرنسي المحتل وفراره من الموت المحقق على أيدي الثوار في أدغال الفيتنام! الغريب أن الحملة الصليبية الإبادية رجعت الى فيتنام مع القوى الأمريكية التي أراد سياسيوها في البيت الأبيض إيقاف المد الصيني ومنع التحام العدوين الشيوعيين (الصين والاتحاد السوفييتي) من الوحدة في فيتنام فارتكب الأمريكان لمدة سنوات من 1969 الى هزيمة الأمريكان في عام 1974 جرائم حرب شنيعة بلغت درجات من الوحشية غير مسبوقة مثل استعمال قنابل النابالم الحارقة للقتل ولتحويل الأرض الفيتنامية الى أرض بور محروقة لا تزرع ولا تنتج أرزا للشعب (الى اليوم 2024) ومات في تلك الحرب حوالي مليون مواطن فيتنامي ولم ينصح أحد من الناصحين البطل (هوشي منه) و لا البطل الجنرال (جياب) بالاستسلام لأن القوة الأمريكية طاغية والشعب الفيتنامي ضعيف!!! وكما اليوم لدى العرب بعض المتخاذلين فقد كان الشعب الفيتنامي الشهم عرضة لنصائح الجبناء والراضين بالمذلة والمهانة بتعلة أن الخصم أقوى عتادا وعدة وأكثر وحشية! واقرأ أيضا ملحمة الشعب الأفغاني الذي تحرر بفضل جهاده من استعمار روسي غاشم ثم من احتلال أمريكي جاء ينتقم منذ عهد بوش لما حدث في 11 سبتمبر 2001! وانحاز منذ عامين الرئيس بايدن مباشرة بعد انتخابه الى الحل السلمي والانسحاب بوساطة قطرية ناجحة وترك أفغانستان لأهلها (طالبان) بعد 20 عاما من حرب مدمرة لم تكسب منها واشنطن شيئا! وأتذكر عندما تابعت مثل غيري أحداث تلك الحرب المدمرة أن بعض النصحاء لبسوا لباس الحكمة والتعقل والواقعية وطالبوا طالبان بتسليم أسلحتها والقبول بالاحتلال كأمر واقع ولكن إصرار المقاومة كان أكبر. وكما كتب المفكر الفلسطيني الأصيل منير شفيق فإن قضية فلسطين الراهنة ليست قضية غزة وحدها وإنما هي قضية المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربية كذلك والاستراتيجية والسياسات الصهيونية راهناً تهدف إلى ترحيل أهالي غزة واستيطانها كما تهدف إلى ترحيل أهالي الضفة الغربية والقدس وثالثاً عرب 1948 (كل الفلسطينيين عرب). وقد وصل الوضع الديمغرافي والجغرافي في الضفة الغربية والقدس إلى ما يشبه استحالة إقامة دويلة فلسطينية (دويلة في هذه المرّة ليس للتصغير). والظاهرة الثانية التي استجدت بعد حرب الإبادة ضد المدنيين وضد المعمار في قطاع غزة بلغ ما يزيد على مائة ألف بين شهيد وجريح ومفقود وما يقارب 80% من تدمير المعمار والبنى التحتية في قطاع غزة. عنوان مقالنا يقصد ما قصده القرآن المجيد من أن المرجفين هم الجبناء القاعدون ويروجون للهزيمة ويكذبون قال الله في سورة الأحزاب الآية 60 (لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلًا).
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2334
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
831
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
702
| 11 ديسمبر 2025