رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قبل خمس سنوات، وفي مثل هذا اليوم، وتحديداً في الساعة العاشرة من مساء يوم 15 يوليو/ تموز 2016م، شاهد العالم كله، الشعب التركي وهو يسطّر ملحمة كبرى في شوارع أنقرة وإسطنبول ومختلف المدن والولايات التركية ضد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة.
في ذلك اليوم خرج الشعب التركي كله، بمختلف توجهاته السياسية، متسلحاً بإيمانه، وعشقه للحرية والديمقراطية، والتفافه حول قيادته الشرعية؛ ليقول للانقلابيين: دونكم أرواحنا، ودماؤنا فداء للحرية والديمقراطية وللشرعية الدستورية.
خرج ليقول لهم وللعالم: لا مكان في تركيا الحديثة للانقلابات العسكرية، والقفز على السلطة، والتحكم بمقدرات الشعب التركي وإنجازاته.
فتركيا اليوم قد ودّعت ماضيها اللاديمقراطي، واتجهت نحو مستقبل واعد تسوده الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. تأخذ من ماضيها العبر والدروس لتبني مستقبلها على هُدًى من الله وبإرادة شعبها، تمد يدها لشعوب العالم وحكوماته ومؤسساته الديمقراطية لإرساء دعائم عالم لا مكان فيه للإرهاب وظلم الشعوب واحتلال أراضيها ونهب ثرواتها وخيراتها.
لقد برهن الشعب التركي للعالم مدى رسوخ هذه المبادئ في فكره الجمعي، حين وقف على جنبات جسر البوسفور، بصدور شبابه العارية، غير آبه بدبابات الانقلابيين وطائراتهم؛ لأنه يدرك أن إعطاء الفرصة لهؤلاء الانقلابيين سوف يقضي على كل المكتسبات التي حققها في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والصناعية والعسكرية، ويجعلها رهينة لتلك الدول التي كانت وراء هذا الانقلاب الفاشل.
لقد أظهر الشعب التركي ثباتاً منقطع النظير رغم كل الأحاديث الكاذبة التي روّجت لها بعض وسائل الإعلام العالمية عن نجاح الانقلاب، وهروب الرئيس التركي خارج البلاد. وتصدى الشعب لرصاص الانقلابيين وقصفهم للمتظاهرين العزل بقذائف الدبابات والطائرات ما تسبب في استشهاد 250 شخصا وجرح ألفين آخرين.
لقد كانت مكالمة واحدة من الرئيس رجب طيب أردوغان التي ظهر فيها عبر تطبيق فيس تايم، ودعا الشعب لحماية الديمقراطية في البلاد؛ كفيلة بأن تقضي على أحلام الظلاميين، وتلهب مشاعر الشعب كله، فتوجه المواطنون بحشود غفيرة لحماية مبنى البرلمان الذي تعرض للقصف الجوي، ورئاسة الأركان بالعاصمة أنقرة، ومطار أتاتورك الدولي بمدينة إسطنبول، ومديريات الأمن في عدد من المدن، ما أجبر الآليات العسكرية التي كانت تنتشر حولها على الانسحاب، وساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي.
ولم يدخر قادة الانقلاب وسيلة لإرهاب المتظاهرين، في محاولة يائسة لتفريق الحشود المتدفقة، فاخترقت مقاتلتان من طراز أف 16 حاجز الصوت، وحلقت عدة مرات فوقهم قرب مطار إسطنبول، وفي كل مرة تحلق فيها الطائرات كانت الحشود تردد بصوت واحد الهتاف الشهير "بسم الله.. الله أكبر".
ولعقود ظل فتح الله غولن مؤسس وزعيم جماعة الخدمة في تركيا يرفع شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة"، لكن أعضاء جماعته كانوا يتسللون سرا خلال تلك السنوات داخل أجهزة الدولة وعلى رأسها القضاء والجيش والشرطة، وعندما جاءت اللحظة المناسبة قرروا الظهور للعلن إلى مسرح السياسة عبر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة.
وقد شكل صمود الشعب التركي في الميدان مفاجأة كبرى لقادة الانقلاب، الذين قرروا الانتقام بشكل وحشي، فبدأت دباباتهم في دهس المتظاهرين وسياراتهم، في مشهد همجي ووحشي وثقته العشرات من مقاطع الفيديو.
ومما يدلل على هذا الوعي الجمعي لدى كافة أطياف الشعب التركي، ورسوخ مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة لديه؛ هو مسارعة أحزاب المعارضة المختلفة للتعبير عن رفضها القاطع لأية محاولة انقلاب على الديمقراطية، ووقفت جميع هذه الأحزاب حكومة ومعارضة تحت قبة البرلمان تهتف معاً ضد قادة الانقلاب، الذين قرروا الانتقام من ممثلي الشعب بقصف مجلس الأمة الكبير (البرلمان)، في جريمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ التركي.
وقد أفقد هذا التلاحم الكبير صواب الانقلابيين، فراحوا يصبون حمم طائراتهم على قصر الرئاسة، ومقرات المخابرات التركية، وقيادة القوات الخاصة، وشرطة العمليات الخاصة، ومديرية الأمن، ومقر مؤسسة البث الفضائي في منطقة "غول باشي" في أنقرة.
وأرسلوا فرقتين من الكوماندوز لاغتيال الرئيس أردوغان أو اعتقاله داخل منتجع سياحي بمدينة مرمريس لكنه غادر قبل وصولهم، كما اختطفوا رئيس هيئة الأركان الجنرال خلوصي أكار.
لكن مساعيهم كلها باءت بالفشل، فقد أجبرهم الشعب بتضحياته في اليوم التالي على الاستسلام لقوات الشرطة، وانقلب السحر على الساحر، وبدأت حملة اعتقالات بحق كل من شارك في هذه العملية الآثمة، وقررت الحكومة بعدها تغيير اسم جسر البوسفور الذي كان شاهداً على إجرام الانقلابيين، وتضحيات الشعب إلى جسر الشهداء، تخليداً لأولئك الأبطال الذين قدموا أرواحهم ثمناً لحرية وطنهم، ورووا بدمائهم الزكية ثراه الطاهر.
ورغم بقاء الشعب التركي بعدها شهراً كاملاً في الشوارع والميادين، للحفاظ على مكتسباته وقيمه؛ إلا أنه لم يتعرض لهؤلاء الانقلابيين بأذى، ولم تسقط منهم قطرة دم واحدة مع أنهم قتلوا عشرات المواطنين العزل، وأحيل أمرهم إلى المحاكم لينالوا جزاءهم وفق القانون، على العكس تماماً مما فعله هؤلاء الظلاميون في الانقلابات السابقة، حين علّقوا العمل بالدستور، وأقالوا الحكومة، وألغوا البرلمان، وأغلقوا الجمعيات، واعتقلوا قادة الأحزاب السياسية، وشكلوا محاكمات صورية، أصدرت بحق معارضيهم عشرات الأحكام الجائرة بالإعدام وغيره.
لقد ذكرت وحشية الانقلابيين في التعامل مع المتظاهرين السلميين، الأتراك بانقلاب عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان ايفرين، والذي قرر قادته تعليق العمل بالدستور وإقالة الحكومة وإلغاء البرلمان وإغلاق الجمعيات واعتقال قادة الأحزاب السياسية.
وكان من نتائج هذا الانقلاب توقيف 650 ألف مواطن، ومحاكمة 230 ألفاً، والحكم على 517 منهم بالإعدام أعدم منهم 50 شخصا، وطرد 30 ألفاً من أعمالهم، وسحب الجنسية من 14 ألفاً، كما قتل 300 شخص في ظروف غامضة و171 تحت التعذيب، كما مات أكثر من 30 ألف تركي في المنفى.
لقد خرجت تركيا أقوى بعد تلك المحاولة الانقلابية، وبدأت في اتخاذ الكثير من التدابير لإعادة هيكلة سياساتها الداخلية وشؤونها الخارجية، وفي مقدمة تلك القرارات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والتحول للنظام الرئاسي.
إن شعوب العالم المحبة للحرية والسلام تنظر للتجربة التركية بإعجاب واعتزاز، تقارن أوضاع تركيا قبل الديمقراطية وبعدها، وما فعلته تركيا وما قدمته من نماذج ونجاحات في مختلف الأصعدة، في البنية التحتية من طرق وجسور وكهرباء ومطارات ومدن صناعية ومؤسسات تعليمية وصحية وصناعة عسكرية، وانفتاح خارجيا على محيطها الإقليمي والعالمي، ووجودها الفاعل في المؤسسات الإقليمية والدولية، وفي استضافتها لللاجئين من دول الجوار، بل معاملتهم معاملة الأخوة الإسلامية والإنسانية، فاستحقت بذلك احترام دول وشعوب العالم وتقديرها.
التحية لشعبنا في يوم عيده، عيد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
التحية لقيادته التي أعطت النموذج في القيادة الواعية الحكيمة المستعدة للتضحية من أجل الحفاظ على المبادئ التي انتخبها الشعب التركي من أجلها، فكانت وفية لتلك المبادئ، وأثبتت أنها قيادة حرة تقود شعباً حراً يمتلك قراره ويقرر مصيره ويضحي من أجله.
كما نوجه الشكر لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والذي بادر كعادته وكان أول من اتصل بالرئيس أردوغان ليلة الانقلاب، لتقديم دعم قطر للحكومة والشعب التركي، في لفتة إنسانية نبيلة تعمق الإخوة والصداقة المتينة بين البلدين.
سفير الجمهرية التركية في دولة قطر
خطاب سمو الأمير.. دعم أسس الدولة الحديثة
في خطابه السنوي أمام مجلس الشورى استهل حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد... اقرأ المزيد
198
| 22 أكتوبر 2025
حين تضعف منظومة الحكم الرشيد
لم يعد مشهد الاحتجاجات والحراك الشبابي مفاجئًا لنا وللمراقبين في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، وحيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية... اقرأ المزيد
276
| 22 أكتوبر 2025
خطاب سمو الأمير.. رؤية واضحة ومسار وطني راسخ
جاء خطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد... اقرأ المزيد
114
| 22 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4803
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3561
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025