رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لعبت الصحافة النسائية العربية عبر التاريخ دورا هاما في معالجة قضايا المرأة وتحريرها وكانت بدايتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بداية مشرفة حيث أسهمت في تحرير المرأة والعمل على إدماجها في المجتمع في مختلف المجالات والقطاعات. وكان دورها فعالا في تعليم المرأة وتحريرها من مختلف القيود والأفكار الرجعية المتخلفة. وبفضل المجهودات الجبارة لدعاة تحرير المرأة وإشراكها في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وبفضل المجلات والصحف المختلفة عبرت المرأة عن إرادتها وعن قدرتها في خوض مجالات الحياة المختلفة جنبا إلى جنب مع الرجل، وكان لها الشرف أن شاركت في الحروب والثورات التي أدت إلى الاستقلال ونيل الحرية والتخلص من الاستعمار الأوروبي. وكانت الصحافة النسائية العربية آنذاك صحافة تنبع من أعماق مشاكل المرأة العربية وهمومها وطموحاتها. واتسمت قيم ومبادئ ورسالة الصحافة النسائية آنذاك بالأصالة والجدية والاحترام التام لمبادئ الدين والتقاليد والعادات الأصيلة. وكانت الصحافة في ذلك الوقت صحافة قضية ومبادئ ورسالة نبيلة، لم يكن يشغلها الربح ولا الإعلانات ولا أخبار الموضة والأزياء والنجوم. صحافة زمان فتحت أبوابها للمرأة الشاعرة وللقاصة وللمهندسة وللطبيبة وللجامعية وللممرضة للتعبير عن أفكارها وآرائها ومشاكلها وهمومها. هذه الصحافة كانت قناة لحرية التعبير ولحرية الفكر والرأي واستطاعت بذلك أن تساهم في تكوين الرأي العام وفي إسماع صوتها للمجتمع. أما صحافة اليوم فالموضوع تغير جذريا ودخلت على الخط متغيرات محورية كالإعلان وصحافة النجوم والمشاهير والإثارة والغرابة.
عند الكلام عن الصحافة النسائية أول تساؤل يلفت انتباهنا هو ما هي مكانة المرأة العربية في المجتمع وما هو دورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. الخ؟ وإلى أي مدى استطاعت المرأة أن تفرض وجودها وتطرح مطالبها وتشارك في الحياة بمختلف دروبها وأبعادها؟ التساؤل الثاني يجرنا لمحاولة معرفة ما هو عدد الصحفيات اللواتي يمارسن المهنة في مختلف المؤسسات الإعلامية، ورغم أن الجنس اللطيف يفوق الذكور في تركيبة النوع في جل الدول العربية إلا أن عدد الصحفيات وحسب نتائج الدراسات الأخيرة للقائمين بالاتصال لا يتجاوز الـ 25 % من العدد الإجمالي للصحافيين الممارسين. وهذه النتيجة تقودنا إلى تساؤل أخر وهو ما هي المناصب القيادية التي تتمتع بها الصحفية العربية في المؤسسة الإعلامية؟ والإجابة تبعث على التشاؤم حيث إن نسبة قليلة جدا من الصحفيات وصلت إلى منصب رئيس قسم، أو رئيس تحرير أو مدير. وهذا يعني الكثير بالنسبة لفعالية العنصر النسوي ومشاركته في اتخاذ القرار. كيف ينظر المجتمع إلى المرأة؟ وكيف ينظر إلى المرأة العاملة وعلى وجه الخصوص المرأة الصحفية. والملاحظ أن الصحافية تعاني من مشاكل عديدة، فإنها تعاني من نفس المشاكل الذي يعاني منها الصحفي الرجل إضافة إلى مشاكل أخرى خاصة بها كامرأة تمارس عملها في مجتمع رجالي ما زال ينظر إلى المرأة كعنصر تابع غير قادر على الإنتاج والعطاء إلا في البيت.
كل هذه المشاكل والعراقيل أدت بطبيعة الحال إلى خروج الصحافة النسائية عن مسارها الصحيح وخروجها عن الاهتمامات والمشاكل الحقيقية - التي لا تحصى ولا تعد - للمرأة في الوطن العربي وراحت تهتم بالقشور وبالشكليات. وهكذا دخلت قيم خبرية وإعلامية على الصحافة النسائية العربية لا علاقة لها بواقع المرأة ومشاكلها في الوطن العربي وتفننت المجلات النسائية في التسابق على عرض مواد التجميل والطبخ والأزياء والموضة ومختلف أنواع الكماليات وكذلك الأثاث وتقنيات الرشاقة وأخبار النجوم والأغاني والأفلام وقصص الحب التي تنتهي بالذبح والقتل والجرائم وكذلك مواضيع الحب والغرام. وهكذا أفرغت الصحافة النسائية المرأة من محتواها الحقيقي ومن قيمتها الإستراتيجية في المجتمع وأكدت أن المرأة يتحدد وجودها وينتهي في المطبخ وفي التجميل والموضة والرشاقة. وهذا في حقيقة الأمر ظلم للمرأة العربية التي فرضت نفسها في جميع المجالات من العلم إلى السياسة إلى الاقتصاد إلى المحاماة.. الخ. فالمجلات النسائية تقدم المرأة وكأنها لم تقتحم السياسة والتجارة والاقتصاد والجامعات ومراكز البحوث والرياضة والطب والتعليم ومجالات أخرى كثيرة ومتشعبة. وهكذا بليت الصحافة النسائية بداء القيم الغربية وأصبحت صورة طبق الأصل للمجلات النسائية الغربية التي تتعامل مع المرأة وكأنها سلعة وحاجة وشيء لا أكثر ولا أقل. تجدها في إعلانات السيارات والعطور وفي غلاف المجلات والصفحات الأولى من المطبوعات لضمان البيع. هذه القيم يغلب عليها طابع التبسيط والتسطيح والتهميش والسلوك الاستهلاكي والتركيز على الشكليات، وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى الابتعاد وعدم التطرق للمواضيع الحساسة والرئيسة التي تشغل المرأة وواقعها واهتماماتها وهمومها ومشاكلها. فبدلا من معالجة قضايا مثل العلاقة بين الزوج والزوجة أو العلاقة بين الأولياء والأولاد أو العلاقة بين المرأة والمجتمع، ومشاكل المرأة العاملة، أو على سبيل المثال مشاركة المرأة في الحياة السياسية ومساهمتها في الحركة الثقافية والرياضية والاجتماعية نجد الصحافة النسائية منهمكة في مواضيع لا تثري ولا تفقر الغالبية العظمى من النساء.
إذا أردنا أن نقيّم ونحكم على الصحافة النسائية يجب علينا أن نسأل أولا ماذا نريد من هذه الصحافة؟ وما هي أهدافها، وكيف تنظر هذه الصحافة للمرأة؟ هل الهدف من هذه الصحافة هو الإعلانات وتحقيق الأرباح؟ أم الهدف هو تغيير واقع المرأة والعمل على تطويرها وازدهارها ورقيها ورفع مستواها التعليمي والثقافي والعمل على إدماجها في المجتمع؟. هل تهدف الصحافة النسائية إلى طرح المشاكل الحقيقية التي تعاني منها المرأة في المجتمع بكل موضوعية وبكل صراحة وبكل حرية وديمقراطية؟ هل الصحافة النسائية هي منبر للمرأة تجد ذاتها فيها وتعبر عن أهدافها ومطامحها، أم هي صحافة تعمل على تهميش المرأة وتفريغها من محتواها الحقيقي؟ هل تعمل هذه الصحافة على تشجيع المواهب والعنصر النسائي في مختلف مجالات الحياة؟ هل الهدف من هذه الصحافة هو ترسيخ العادات والتقاليد والثوابت والمعتقدات وإرساء القيم العربية الإسلامية؟ هل الهدف من الصحافة النسائية هو بعث التراث والاهتمام بتاريخ المرأة وبتاريخ الحركة النسائية وإنجازاتها عبر العصور؟ وأخيرا هل الهدف من الصحافة النسائية هو تحسين أوضاع المرأة وتطويرها وبذلك تغيّير الواقع أم الهدف هو تكريس الوضع الراهن؟ ومن هنا تكون هذه الصحافة ناقلة وليست مغييرة.
في عصر المجتمع الرقمي والإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية يتحتم على المرأة وعلى الصحافة النسائية أن تخرج من روتين الأزياء والموضة وأخبار النجوم والفضائح وأن تلتزم منهجية وإستراتيجية تؤهلها لأن تكون أكثر جدية وأكثر فعالية حيث تستطيع المرأة من خلال الصحافة الملتزمة والمسؤولة أن تلعب دورها كما ينبغي وأن تكون لها كلمتها في الرأي العام وفي المشاركة السياسية وفي اتخاذ القرار. فالصحافة الفاعلة هي الصحافة التي تغيّر والتي تنتقد والتي تصحح والتي تؤثر في مجريات الأمور، والتي تمّكن الشرائح الاجتماعية المختلفة من تثبيت ذاتها والقيام بدورها في المجتمع على أحسن ما يرام.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025