رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تغنى وما زال الكثير من المختصين والباحثين والمنظرين في شؤون الصحافة والإعلام بأن الصحافة هي السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث في المجتمع: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ومنهم من رأى أن الصحافة هي بارومتر الديمقراطية وهي الأساس في إنصاف الفقراء والمساكين والمهمشين، وهي الوسيلة الاستراتيجية للكشف عن الحقيقة واستقصاء الواقع حتى سماها الأمريكيون بـ" كلب الحراسة"، لكن واقع القرن الحادي والعشرين وواقع الحرب على الإرهاب يقولان إن الصحافة تحوّلت من السلطة الرابعة إلى وسيلة لتزييف الواقع وتضليل الوعي وفبركة الأحداث والقضايا وفق ما تمليه عليها قوى المال والأعمال والسياسة.. فوسائل الإعلام اليوم، في عصر الفضائيات والانترنت والمجتمع الرقمي، أصبحت تكيّف الأحداث والوقائع وفق القوى التي تتحكم في النظام، سواء كان ذلك النظام محليا أو عالميا. لقد كشفت الحرب على العراق الأخطاء والهفوات والانحرافات الخطيرة التي وقعت فيها وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم حيث إنها انجرت وراء أطروحات تجار الأسلحة والحروب من دون أن تتجرأ وتحاول أن تكشف عن الأساطير والأكاذيب وغيرها من آليات التضليل والتزييف التي تستعملها كبريات وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية.
تركت أحداث 11 سبتمبر تداعياتها وانعكاساتها وبصماتها على جميع مجالات الحياة ليس في الولايات المتحدة فقط وإنما في جميع أنحاء العالم. فبعد مرور أكثر من عقد من الزمن على ضرب رمز القوة الأمريكية في نيويورك وواشنطن، وضرب أكبر قوة في العالم في عقر دارها، وبعد عشرات الآلاف من المقالات والتقارير والدراسات والبرامج الحوارية والسياسية في المؤسسات الإعلامية المختلفة وعبر جميع أنحاء العالم، نتساءل عن الثمن الغالي الذي دفعته الصحافة والمضايقات والتجاوزات التي تعرضت لها من جهة، ومن جهة أخرى الانحرافات التي ارتكبت في حق الكلمة الصادقة والأداء الإعلامي الموضوعي والنزيه والمسؤول، والهادف من أجل تزويد الرأي العام بالحقائق والمعلومات والمعطيات. يبدو أن الخاسر الأول من أحداث 11 سبتمبر هي الممارسة الإعلامية وحرية الصحافة خاصة في الدول التي اشتهرت بتقاليد حرية الفكر والرأي والتعبير، تلك الدول التي بنت الديمقراطية على أكتاف الصحافة الحرة، القوية والفعالة. لكن ما حدث في التعامل مع وقائع 11 سبتمبر إعلاميا كشف أن وسائل الإعلام خانت رسالتها ولم تفلح في إنصاف جمهورها وإنصاف الرأي العام سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي لمعرفة حقيقة الحدث وخلفياته وأبعاده، وأهدافه؟ هل استطاعت وسائل الإعلام أن تزيح الالتباس والغموض والتضليل والتشويه والصور النمطية وتقدم الواقع كما هو؟ أم أنها تسارعت وتفننت في فبركة هذا الواقع، واقع 11 سبتمبر وفق أهوائها وأهدافها ومصالحها ضاربة عرض الحائط أدبيات الموضوعية والالتزام والمسؤولية والنزاهة وتقديم الحقائق كما هي لا غير. الصحفي تيسير علوني سجن في إسبانيا من دون محاكمة نزيهة ومن دون أدلة تذكر، وغيره كثيرون في أرجاء العالم والمبرر هو محاربة الإرهاب والأمن القومي وإلى غير ذلك من أدبيات أباطرة الرقابة والتسلط والتفنن في التعتيم والتكميم. هكذا إذن لم تصبح هناك فروق بين الدول السلطوية والدول التي تدعي الديمقراطية وحرية الفكر والرأي والتعبير وحقوق الإنسان. فأمريكا صاحبة " التعديل الأول" والبلد الذي يقدس حرية الصحافة، ضربت عرض الحائط ما بنته خلال ما يقارب ثلاثة قرون وأصبحت توّجه الأوامر لرؤساء التحرير وتتدخل في افتتاحيات المؤسسات الإعلامية مثلها مثل أي دولة سلطوية أو دكتاتورية في العالم. وهذا ما فعلته "كونداليزا رايس" باسم الأمن القومي والدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية.
أسالت حادثة 11 سبتمبر الكثير من الأحبار وأفرزت اهتماما إعلاميا لا مثيل له في مختلف أنحاء العالم، فتهافتت المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها ومشاربها المالية والأيديولوجية والسياسية لتقديم الأخبار والتعاليق والبرامج التحليلية والدراسات حول الأزمة وأبعادها وخلفياتها وتداعياتها. والسؤال المثير للجدل والنقاش والدراسة من قبل الأكاديميين والسياسيين والمهتمين هو كيف تعامل الإعلام مع حادثة 11 سبتمبر؟ هل طرح كل الأسئلة التي خطرت وتخطر ببال الفضوليين من القراء والمستمعين والمشاهدين؟ هل اهتمت وسائل الإعلام بمعرفة لماذا ضربت أمريكا دون غيرها؟ ومن ضرب أمريكا؟ وما هي الخلفيات والأبعاد؟ هل تساءلت وسائل الإعلام عن كيف كان بن لادن بطلا في الثمانينات وحليفا استراتيجيا لأمريكا في محاربة الاتحاد السوفييتي والشيوعية وكيف أصبح فيما بعد العدو اللدود لأمريكا؟ كيف كان بطلا وأصبح إرهابيا؟ ومن الذي صنع بن لادن؟ ماذا حدث؟ ما هي علاقة ما حدث بما يجري في العالم من استغلال وظلم وبطش وعدم تكافؤ في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية؟ ماذا عن الإرهاب التي تمارسه العديد من الدول؟ وما هو الإرهاب في المقام الأول؟هل تساءلت وسائل الإعلام الأمريكية عن عشرات الآلاف من الشباب العرب المسلمين الذين جنّدتهم وكالة المخابرات الأمريكية للجهاد في أفغانستان ضد العدو الشيوعي؟
أصبح الإعلام في القرن الحادي والعشرين صناعة تفبرك الواقع أكثر مما تشرحه وتفّسره كما هو للرأي العام. الإعلام في عصر المجتمع الرقمي أصبح قوة تقرأ الواقع وتفسره وفق القوى المالية والسياسية التي تتحكم فيه. تعتبر عملية إخفاء الحقيقة الدرجة العليا من الجريمة ومن الإرهاب، فتزوير الواقع وتشويهه والتلاعب بعقول الجماهير لإرضاء حفنة صغيرة جدا من تجار الأسلحة والحروب يفوق في خطورته أكبر الأعمال الإجرامية والإرهابية. الضمير المهني الإعلامي مطالب باستعمال المهنية والحرفية والأخلاق والالتزام بهدف التفاهم والتواصل والحب والوئام بين الأجناس والأعراق والشعوب حتى يصبح الإعلام مصدرا لنشر القيم الإنسانية والتسامح والمحبة والتفاهم واحترام الديانات والثقافات، وليس لإشعال نار الفتنة والحروب والجرائم وثقافة الإقصاء والحقد والكراهية والعنصرية بين الشعوب والدول والأمم.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
201
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
681
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
111
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025