رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

543

سعدية مفرح

لحظة الدعاء.. لست وحدك!

17 مارس 2025 , 02:00ص

ثمة صوت داخلي ينادي بلا لغة، يرتفع نحو اللاحدود، ويتلمس في الغيب رحمةً لا تُرى ولكنها تُحس. الدعاء، ذلك السر الخفي الذي يربط الأرض بالسماء، ويمنح الإنسان طمأنينةً لا يفهمها إلا من ذاقها.

الدعاء ليس مجرد كلمات تتناثر في الهواء، ولا طقوساً تُمارَس حين تعجز الحيلة. إنه يقين يتجلى في هيئة رجاء، ونداء محمّل بالأمل، وتسليم يشبه ارتخاء الأعضاء بعد عناء طويل. لحظة الدعاء هي اللحظة التي يكشف فيها الإنسان ضعفه، لا ليُهان، بل ليُحتضن، ليُقَال له: لست وحدك.

في فلسفة الدعاء، لا يكون السؤال بقدر ما يكون الاعتراف. الدعاء في جوهره إقرارٌ بأن للكون ربًّا يُدبّر أمره، وأن الحكاية مهما التوت فصولها، فإنها تسير وفق حكمة أعظم من أن يُدركها عقل محدود. حين يرفع الإنسان يديه، فهو في الحقيقة يرفع عن قلبه عبء التفسير، ويُسلم أمره لمن وسِعت رحمته كل شيء. لهذا كان الدعاء طمأنينةً قبل أن يكون رجاء، وكان عبادةً قبل أن يكون طلباً.

كم مرة نادى القلب في لحظة ضيق، فوجد الراحة قبل أن يأتي الفرج؟

كم مرة سالت دمعةٌ في سجدة، فغسل الله بها كدراً عالقاً في الصدر؟

ليس لأن المشكلة قد حُلَّت حينها، بل لأن الطمأنينة سبقت الحل، واليقين سبق العطاء.

إن سر الدعاء ليس في استجابة سريعة تلغي المحنة، بل في ذلك الشعور العميق بأن هناك من يسمعك، من يفهمك، من يرى انكسارك ولا يتركك وحيداً فيه.

واليقين بالله هو الروح التي تمنح الدعاء معناه. لا يدعو الإنسان وهو يشك في الإجابة، ولا يناجي وهو في قلبه تردد. الدعاء ليس اختباراً، وليس مقامرةً مع الأقدار. إنه إيمان مطلق بأن الخير قادم، حتى لو لم يكن كما تخيلناه. ولهذا كان أعظم الدعاء ذلك الذي يقترن بالتسليم: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي»، «افعل بي ما أنت أهله، لا ما أنا أهله»، «إنّي مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين». هذه الكلمات ليست مجرد توسّلات، إنها انغماسٌ في الحكمة الإلهية، واستغراقٌ في الطمأنينة التي تجعل الإنسان يرى حتى في المنع عطاءً، وحتى في الألم رحمةً.

ليست كل دعوة تُستجاب كما نريد، ولكن كل دعوة تُسمع. وما من يدٍ رُفعت إلا وأمسكتها رحمة الله بطريقةٍ ما. ربما يمنحك الله ما طلبت، وربما يمنحك أفضل منه، وربما يصرف عنك شراً لم تكن لتراه، وربما يدّخر لك الإجابة لساعةٍ تكون فيها أشد حاجة. في كل الأحوال، الدعاء لا يضيع، ولا يذهب هباءً، ولا يعود صاحبه خائباً. كيف يخيب من قرع باب الكريم؟

والدعاء ليس مجرد وسيلةٍ لطلب المفقود، بل هو صلةٌ يومية، حديثٌ ممتد، علاقة دائمة بين العبد وربه. ليس شرطاً أن يكون في لحظة يأس، وليس من العدل أن نطرق بابه فقط حين تضيق بنا الحياة. الدعاء هو الامتنان حين تُعطى، والثناء حين تُوفّق، والتسليم حين لا تفهم، والحب الذي لا يتغير مهما تبدلت الظروف.

حين يدعو المرء، فهو لا يغيّر القدر، لكنه يتغير معه. يصبح أكثر اتساعاً، أكثر هدوءاً، أكثر قدرةً على مواجهة الأيام بقلب مطمئن. يعرف أن في السماء رباً لا يخذل من رجاه، ولا يرد من دعاه، ولو بعد حين. ولهذا، يبقى الدعاء هو الوعد الدائم بأن الحياة، مهما اشتدت، تظل في يد الرحيم، وأن كل همّ، مهما ثقل، يذوب حين يلامس رحمة الله.

مساحة إعلانية