رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. عبدالله حمد الخالدي

د. عبدالله حمد الخالدي - باحث في القانون المدني

مساحة إعلانية

مقالات

561

د. عبدالله حمد الخالدي

مؤامرة الصمت

17 نوفمبر 2025 , 03:14ص

لعل أبرز إشكالية يعاني منها المريض المتضرر من خطأ طبي هي إثبات دعواه أمام القضاء، إذ يتعين عليه أن يثبت خطأ ذا طبيعة فنية، وهو - في الغالب - لا يكون فنيًا متخصصًا في علوم الطب. بل قد لا يكون واعيًا أثناء وقوع الخطأ الطبي، ففي كثير من الأحيان يكون المريض مخدرًا بشكل كلي أو جزئي.

وبما أن القانون يطلب من المدّعي إقامة الدليل على ما يدّعيه، إذ إن «البيّنة على من ادعى»، فكيف يستطيع المريض إثبات خطأ ذي طبيعة فنية وهو ليس بطبيب في معظم الأحيان؟ بل قد يكون غائبًا عن الوعي أثناء الواقعة!

وضع قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم (13) لسنة 1990 آلية تسهل عمل القاضي في الكثير من الدعاوى القضائية التي تتميز بطبيعة فنيّة وتخصصيّة، ومنها دعاوى التعويض عن الأخطاء الطبية. هذه الآلية تتمثل في استعانة القاضي بخبير متخصص يكون طبيبًا ملمًا عارفًا بأصول مهنة الطب، ومتخصصًا في الموضوع المرتبط بالواقعة المعروضة أمام المحكمة. 

غير أن ذلك يثير العديد من الإشكاليات القانونية، أهمها وأكثرها شهرة بين الباحثين في مجال المسؤولية الطبية يتمثل في مشكلة انحياز الطبيب الخبير لزملائه الأطباء، إذ تمثل مشكلة الزمالة الطبية في أداء الخبير لمأموريته هاجسًا للباحثين القانونيين، وللقضاة الذين حذروا في بعض أحكامهم من انحياز الأطباء لزملائهم، فقد نص حكم قضائي قديم في جمهورية مصر على تحذير القضاة من انحياز الأطباء لزملائهم.

ويسمي الفقه الأنجلو أمريكي هذه الظاهرة بمؤامرة الصمت (Conspiracy of Silence)، فقد يتواطأ الخبير مع زميله الطبيب ويصمت عن خطئه خوفًا من السخط والنبذ اللذين سيقابلانه من زملائه، وتجنبًا من فقدان الإحالات الطبية التي يستفيد منها.

وقد وضعت القوانين نصوصًا تعطي القاضي الحق في عدم التقيد بتقرير الخبرة، بشرط التسبيب المناسب، ما يمثل حلًا لهذه المشكلة؛ فالقاضي يعد الخبير الأعلى في المحكمة، وله الحق في عدم التقيد بتقارير الخبرة عندما يرى فيها تناقضًا، أو يكون انحياز التقرير واضحًا بما لا يدع مجالًا للشك. فتنص المادة (355) من قانون المرافعات القطري على أن «رأي الخبير لا يقيد المحكمة، ولكنها تستأنس به. وإذا حكمت خلافاً لرأي الخبير وجب عليها بيان الأسباب التي أوجبت إهمال هذا الرأي كله أو بعضه».

ومع ذلك، قد نرى بعض القضاة يعتمد كليًا على ما في تقرير الخبير من معلومات فنيّة تخصصية يجهلها في غالب الأحيان، وهو لا يلام في ذلك، ولكن قد تكون المسألة عادية ولا تحتاج إلى رأي خبير، كأن ينسى الجراح غرض ما في جسم المريض، أو يسقط بسبب إهمال الممرض من السرير، أو تجرى العملية الجراحية على الجهة الأخرى السليمة من جسم المريض.

ولذلك وضعت ولاية نيڤادا الأمريكية قانونًا يسهّل على القاضي الحكم دون اللجوء إلى الخبرة في بعض الحالات التي تحددها في دعاوى التعويض عن الأخطاء الطبية، كما وضع القضاء الأنجلو أمريكي مبادئ عدة في المسؤولية الطبية تسمح فيها للقاضي أن يحكم دون اللجوء للخبرة الفنية عندما تكون المسألة المعروضة متوافقة مع معلومات وخبرات شخص عادي من عامة الناس، بحيث يستطيع هذا الشخص أن يميز الخطأ في هذه الواقعة بسهولة، ويسميها القضاء الأمريكي استثناء المعرفة العامة (Common Knowledge Exception) والتي تعد استثناء من القاعدة العامة التي تلزم ندب خبير فني في المسائل الطبية، وهي تتوفر عندما تكون الواقعة المعروضة ضمن نطاق المعارف العامة للشخص العادي، أي غير المتخصص.

وفي محاولة جديرة للاهتمام للحد من إشكالية الخبرة الطبية، قامت بعض المجتمعات الأمريكية بإنشاء هيئة تحكيم للنظر في تقارير الخبرة القضائية، وقد بدأت هذ الفكرة الرابطة الأمريكية لطب جراحة الأعصاب، ثم تبنتها الكلية الأمريكية لطب النساء والتوليد، وتمكِّن هذه الهيئات من توجيه اللوم أو إيقاف أو طرد الأطباء الذين يثبت خروجهم في تقارير الخبرة عن إطار أخلاقيات مهنة الطب.

ختامًا، إن مسألة انحياز الخبرة الطبية أمام القضاء لا تعاني منها دولة بعينها أو نظام قانوني معين، بل هي مشكلة عالمية تجعل من إثبات خطأ طبي مسألة معقدة وشائكة بالنسبة للمريض، ومن الضروري تبني وسائل إثبات حديثة تيسر حصول المريض المتضرر على تعويض يجبر ضرره.

والله من وراء القصد.

 

مساحة إعلانية