رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تؤكد الدراسات أهمية اللعب بالنسبة للأطفال، لما له من فوائد، ليس على صحتهم ونموهم وتطورهم الحركي فحسب، وإنما على زيادة التطور الاجتماعي والسلوكي والإبداعي. وممارسة الرياضة اليومية، من الأهمية بمكان، لما لها من فوائد في تقليل معدلات السمنة لدى الأطفال، ومنحهم إحساسا بالحياة الطبيعية، وهو أمر رائع لصحتهم العقلية. فالتعلم في الهواء الطلق يساعد على التطور والإبداع. والأطفال الذين يلعبون في الهواء الطلق، يكون أداؤهم أفضل في الفصل. فالملاعب المدرسية تساعد الأطفال على إطلاق طاقاتهم قبل دخول الفصل الدراسي، وتؤدي إلى زيادة مشاركة الطلاب وتقليل الاضطرابات أثناء أنشطة الفصل الدراسي.
وبينما نريد أن يتمكن الأطفال من الخروج والحصول على الفوائد الكاملة للعب في الملاعب المدرسية، نحتاج أيضا إلى تذكر المسؤوليات والمخاطر المرتبطة بذلك. فبقدر ما تكون هذه الأماكن ممتعة للأطفال، فهي نفس الأماكن التي يعاني فيها الأطفال في أغلب الأحيان من الإصابات، فبحسب احصاءات لمركز السيطرة على الأمراض- اتلانتا، أفادت أن 200 ألف طفل كل عام، تتراوح أعمارهم ما بين 5-9 سنوات، يزورون غرف الطوارئ بالمستشفيات لإصابات متعلقة بالملاعب.
وفي السطور التالية، أرجو أن تجدوا ما يساعدكم على تحقيق السلامة في ملاعبكم المدرسية.
وجود قائمة تحقق لسلامة الملعب: من الأمور الهامة لسلامة الملعب، بحيث يتم تفقد الملعب أو منطقة اللعب للتأكد من أن الأطفال الصغار قادرون على اللعب بأمان. وتتضمن هذه، سلامة الملاعب والفحوصات والسياسات للمساعدة في تقليل مخاطر الإصابة، وضمان الحالة المناسبة للملعب قبل البدء باللعب. قم بفحص سريع للمخاطر في منطقة اللعب قبل السماح للأطفال بالدخول، افحص بانتظام معدات الملعب بحثا عن الأجزاء المكسورة أو المفقودة أو البراغي أو التركيبات البارزة أو الصدأ أو الشظايا أو الشقوق والثقوب. قم بتثبيت حواجز الحماية على منصات المعدات. وتأكد من أن جميع الفتحات الموجودة في حواجز الحماية بين درجات السلم والفتحات المماثلة مطابقة للمعايير، بحيث لا تسمح هذه الفتحات بين هذه النطاقات بأن يصبح رأس الطفل محاصرا بينها. تأكد كذلك من خلو مكان اللعب من السموم البيئية مثل مبيدات الآفات والنباتات غير المعروفة. تأكد من عدم وجود مناطق في الملعب تسمح للأطفال بالابتعاد بسهولة عن أعين المعلمين.
وجود ومشاركة قواعد اللعب: من المهم أن يكون لكل ملعب مجموعة من القواعد الخاصة به. والتي من أمثلتها احترام أجساد الآخرين، ويتمثل ذلك في منع الدفع أو الخشونة في اللعب، كيفية استخدام الألعاب، وتنبيه الطلاب على ضرورة استخدام أعينهم قبل أن يقوموا بالقفز، وكيفية الهبوط، ثم كيفية اكتشاف البيئات غير الآمنة وتجنبها، كأن تكون معدات اللعب رطبة أو متسخة أو ساخنة من حرارة الشمس.
مشاركة الآباء: تعتبر مشاركة الآباء من طرق التواصل والتعزيز المستمر بين الآباء والمعلمين، وبتوصيل بعض القواعد للآباء حول السلامة بالملعب، فإن ذلك يعزز سلامة الطلاب، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إرسال قائمة قواعد الملعب الخاصة بالمدرسة وتشجيع أولياء الأمور على تعزيزها، عندما يكون الأطفال في المدرسة. كما يمكن إرسال الملاحظات حول سلامة الملعب إلى المنزل، بحيث يكون الوالدان يقظين بهذه القواعد المتبعة. كما يمكن إرشادهم إلى بعض الإصابات التي قد تحدث أثناء اللعب لتعليم أطفالهم كيفية تجنبها.
راقب اللعب وكن مستعداً: يعتبر السقوط هو السبب الرئيسي للإصابة أثناء اللعب، فيجب الانتباه للطلاب أثناء قيامهم بهذه النشاطات. وكن مستعدا لتوقع الإصابات بتوفير الإسعافات الأولية بحيث تكون في متناول اليد، ووجود فريق مدرب على الاستجابة لهذه الحوادث. فالاتصال الجيد واستعداد الفريق من الممارسات المهمة لتقليل الحوادث المدرسية. قم بوضع خطة لإدارة الجروح والخدوش، وتأكد من توقف الأطفال عن ممارسة المزيد من اللعب عند ظهور أي علامات للألم. وتأكد من حصول بعض الموظفين على دورات في الإنعاش القلبي الرئوي. وضع في اعتبارك أن بعض الأطفال لديهم حساسية غذائية من بعض الأطعمة. وتأكد من وجود ملف لكل طالب والأدوية الخاصة به. قم بتوثيق الحساسية البيئية وأخذها في الاعتبار أثناء وقت اللعب في الهواء الطلق. من المهم كذلك، أن تذكر المعلمين أنهم يجب أن يكونوا على حالة تأهب شديد عندما يلعب الأطفال، فوقت اللعب في الخارج هو تغيير كبير في المشهد بالنسبة للمعلمين والأطفال ولكن لا ينبغي اعتباره وقت راحة للمعلمين. فلا تقم بإعداد مقاعد للمدرسين في الملاعب، فتقلل من أهمية الحاجة للإشراف.
نصائح لإيجاد التوازن: ساعد الأطفال أثناء لعبهم، عن طريق إيجاد طريقة لخروجهم من المشاكل إذا تسلقوا مناطق عالية أكثر من اللازم، أطلب من المدرس إرشادهم حول كيفية النزول والمساعدة بدلا من مجرد إخراجهم من الموقف. كما يمكنك تشجيع الأطفال على اللعب الآمن من خلال تهيئة فرص جديدة للاستكشاف في كل مرة تكون فيها في الملعب، حتى تقلل الملل وتحافظ على انتباههم أينما تريد. اجعل الملعب آمنا ونظيفا ولكن وفر للأطفال فرصا لتجربته مع مخاطر محدودة.
التواصل هو المفتاح: من المهم الحفاظ على خطوط الاتصال مفتوحة بين الموظفين والآباء والأطفال، فيمكن أن يساعد هذا التواصل المناسب في سد الفجوة وتمكين المعلمين والموظفين من تتبع المعلومات المهمة بسهولة والتواصل بشكل أسرع مع الآباء. وهذا يجعل إدارة سلامة الملاعب من الأمور السهلة ويوفر المزيد من الوقت للتفاعلات الجيدة مع الأطفال الصغار.
ممارسة السقوط الآمن: لا بد أن تبقى الحوادث، سواء أردنا ذلك أم لا. هذا أمر شائع الحدوث للأطفال في جميع الأعمار. ويمكن أن يؤدي إلى إصابات خطيرة. لذلك من المهم تعليم الأطفال تقنيات سقوط أكثر أمانا للمساعدة على منع حدوث الإصابات. وبعض الأساليب الشائعة التي يمكنك تعليمها لهم هي طريقة الثني واللف أو تقوية السقوط في الركبتين أو المرفقين للمساعدة في منع الإصابات والارتجاجات طويلة المدى، ويمكنك أيضا تشجيع مدرس التربية البدنية على توضيح كيفية ممارسة السقوط بأمان في حالة وقوع حادث أثناء اللعب.
خصص وافحص: خصص معدات لعب للأطفال ذوي السن الصغيرة، وأخرى للأطفال ذوي الأعمار الكبيرة. افحص سريعاً ملابس الأطفال قبل السماح لهم بالدخول إلى الملعب، فوجود أربطة مفكوكة أو أقراط أو أحزمة فضفاضة وأحذية غير مربوطة، قد تكون سببا في وقوع الحوادث.
احتفظ بسجلات للحوادث: من المهم أن يكون لديك معرفة بالإحصائيات المتعلقة بسلامة الملعب للمساعدة في إبقاء المعلمين والمشرفين على دراية بما يجب البحث عنه. وتزويدهم بالتقارير عن سلامة الملاعب.وكذلك تحديد أسباب السقوط والحوادث لتجنبها.
وفي الختام، مع عودة اللعب في الملاعب المدرسية، هذه تذكيرات للسلامة. تذكر، وجود قائمة لسلامة الملعب، ومشاركة قواعد اللعب، ومشاركة الآباء، والمراقبة والاستعداد بتوفير الإسعافات، ونصائح لإيحاد التوازن والتواصل الفعال وممارسة السقوط الآمن والاحتفاظ بالسجلات، خطوات تساهم في تعزيز السلامة في ملعب مدرستك.
خبير صحة بيئية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كاتبة قطرية - مستشار الصحة البيئية
falotoum@hotmail.com
@faalotoum
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6207
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3762
| 21 أكتوبر 2025