رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

150

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

التهدئة التي تسبق العاصفة

19 أكتوبر 2025 , 01:25ص

المرحلة الثانية من وقف الحرب لا تُشبه الهدوء، بل تشبه الصمت الذي يسبق الانفجار. هي مرحلة تتزيّن بالحديث عن السلام وإعادة الإعمار، بينما في عمقها تتصارع القوى على النفوذ، وتُعاد صياغة المشهد السياسي في غزة والمنطقة بأسرها. فمنذ إعلان التهدئة الأولى، ظنّ كثيرون أن الحرب وضعت أوزارها، لكن من يعرف طبيعة الصراع يدرك أن ما بعد المدافع أصعب من أصواتها.

 ما يجري اليوم تحت مسمى «المرحلة الثانية» ليس مجرد ترتيبات إنسانية، بل سباق بين مشاريع مختلفة: مشروع يريد غزة منزوعـة السلاح وتحت وصاية دولية، ومشروع آخر يرى أن سلاح المقاومة ضمانة البقاء. وبين هذين الاتجاهين، تدور مفاوضات دقيقة تشارك فيها قوى إقليمية ودولية، لكل منها حسابات ومصالح. الولايات المتحدة تحاول ترسيخ نفوذها في إدارة ما بعد الحرب، فيما تحاول قطر ومصر وتركيا تثبيت دور الوسيط العادل الذي يحفظ الحد الأدنى من السيادة الفلسطينية ويمنع انزلاق الوضع الأمني مجددًا نحو المواجهة.

الرهائن وإعادة الإعمار… ورقتان في ميزان السياسة في المرحلة الثانية، لا يتوقف الحديث عن تبادل الأسرى وإطلاق الرهائن، بل يُستخدم هذا الملف كأداة ضغط سياسي لفرض وقائع جديدة على الأرض. إسرائيل تسعى لاستغلال قضية الرهائن للحصول على تنازلات في ملف السلاح والإدارة، بينما تحاول حماس ربط الإفراج الكامل بفتح المعابر وإعادة الإعمار وتثبيت وقف إطلاق النار الدائم. وبين الطرفين تتأرجح المبادرات في مهبّ المساومات.

أما إعادة الإعمار التي تُطرح في المؤتمرات والبيانات، فهي لا تزال رهينة الخلافات. فكل دولة مانحة تريد أن تُعيد الإعمار بطريقتها ومن خلال شركاتها أو مؤسساتها، ما يجعل الملف الاقتصادي ساحة جديدة للصراع الناعم، لا تقل خطورة عن ساحات الحرب نفسها.

سلاح المقاومة.. جوهر الصراع القادم:الحديث عن «نزع السلاح» هو جوهر المرحلة الثانية، وهو أيضًا العقدة التي يمكن أن تُفجّر الاتفاق برمته. فالمقاومة ترى في سلاحها حقًا مشروعًا للدفاع عن شعبها، بينما تعتبره إسرائيل تهديدًا لأمنها واستمرارًا للحرب بأشكال أخرى. ومن هنا، تحاول بعض الأطراف الغربية تمرير فكرة دمج الفصائل ضمن قوة أمنية فلسطينية «موحدة» بإشراف دولي، لكن التجارب السابقة تُظهر أن مثل هذه الصيغ المؤقتة لا تصمد طويلًا أمام تعقيدات الميدان.

حكم غزة بعد الحرب… دولة أم وصاية؟ السؤال الذي يتهرب منه الجميع: من سيحكم غزة بعد انتهاء العمليات؟ هل ستكون السلطة الفلسطينية بوجهها القديم، أم إدارة دولية مؤقتة برعاية أمريكية، أم صيغة شراكة جديدة بين الفصائل برعاية عربية؟ هذا السؤال لم يُجب عليه أحد حتى الآن، وهو ما يجعل المرحلة الثانية أخطر من سابقتها، لأنها تُحدّد شكل غزة السياسي وربما مستقبل القضية الفلسطينية بأكملها.

إن فرض وصاية أجنبية أو تدخل عسكري خارجي تحت غطاء “إدارة مدنية” سيقود إلى تفجير جديد، لأن الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يُحكم إلا من داخله، لا من وراء البحار.

ولا يمكن إغفال الدور المحوري الذي لعبته دولة قطر في تقريب وجهات النظر منذ بداية الحرب، ثم في ترتيبات وقف إطلاق النار. فقد كانت الدوحة دائمًا منصة الحوار وملتقى الوسطاء، تسعى لحل إنساني لا يُقصي أحدًا، وتحافظ على الحد الأدنى من العدالة في توزيع المساعدات وضمان سلامة المدنيين. وفي المرحلة الثانية، يُعوّل كثيرون على استمرار هذا الدور القطري المتوازن لضمان أن لا تتحول التهدئة إلى استسلام، ولا يُستغل الهدوء لفرض حلول أحادية الجانب.

ردود الفعل المتباينة: الفلسطينيون استقبلوا الإعلان عن المرحلة الثانية بمزيج من الأمل والحذر. فالأمل نابع من توقف القصف وتخفيف المعاناة الإنسانية، لكن الحذر مصدره التجارب السابقة التي تحوّل فيها وقف النار إلى استراحة قبل جولة أعنف. في الشارع الغزي، هناك مطالبات بعودة الحياة الطبيعية وفتح المعابر وضمان الإعمار الفوري، بينما تحذر الفصائل من أي مساس بسلاح المقاومة أو محاولة فرض وصاية أجنبية. إسرائيل من جانبها اعتبرت التهدئة «نصرًا مرحليًا» لكنها غير مطمئنة إلى ما بعده. تصريحات بعض مسؤوليها أوضحت أن تل أبيب ترى في المرحلة الثانية فرصة لـ«تفكيك البنية العسكرية لحماس»، لكنها تدرك أن ذلك لن يتحقق دون تصعيد جديد أو تدخل دولي مباشر.كما تتحدث الأوساط الإسرائيلية عن خشية من أن يتحول الهدوء الحالي إلى إعادة ترتيب للمقاومة، مما يجعلها تعارض أي انسحاب كامل دون ضمانات أمنية صارمة.

التوقعات والنتائج المحتملة:استمرار التوتر البارد من المرجح أن تشهد المرحلة الثانية وقفًا هشًا لإطلاق النار مع مناوشات محدودة، خاصة في المناطق الحدودية، تأخر إعادة الإعمار بسبب الخلافات السياسية والبيروقراطية بين الجهات المانحة والفلسطينية، تزايد الدور العربي خصوصًا القطري والمصري، في مراقبة التنفيذ ومنع انهيار الاتفاق، بروز إدارة مدنية مؤقتة قد تُشكَّل بمشاركة شخصيات فلسطينية مستقلة، بدعم عربي ودولي.احتمال عودة التصعيد، إذا فشلت الأطراف في التوصل إلى صيغة تضمن الأمن والكرامة معًا، فقد تعود المواجهة بشكل أوسع خلال أشهر قليلة.

السلام المؤجل: المرحلة الثانية من وقف الحرب تبدو كجسرٍ بين حربٍ لم تنتهِ وسلامٍ لم يبدأ بعد. فالقضية الفلسطينية ما زالت تراوح مكانها بين وعود المؤتمرات وواقع الاحتلال، وما لم يُبنَ هذا الاتفاق على أساس العدالة والاحترام المتبادل، فإن كل تهدئة ستكون مؤقتة، وكل سلام سيكون مؤجلًا. إن السلام الحقيقي لا يصنعه توازن السلاح، بل توازن الحقوق. ولن يتحقق الأمن لإسرائيل ولا الطمأنينة للفلسطينيين ما لم تُعاد الأرض لأهلها ويُرفع الحصار عن غزة وتُضمن حياة كريمة لأبنائها.

مساحة إعلانية